كان الطوطم *- طائرا أو حيوانا - هو معبود العشيرة وراعيها الذى يحميها من غضب الطبيعة وعدوان الإنسان والحيوان. وكان نظام العشائر الطوطمية يقوم على الاعتقاد بأن العشيرة تنحدر من فصيلة الطوطم الحيوانية، فإذا اتخذت العشيرة الغراب طوطما لها فذلك لأن غرابا التقط قوقعة وأن القوقعة تحولت إلى امرأة واقعها الغراب ومن هذا القران انحدرت العشيرة.
وقد كان حراما على أفراد العشيرة إيذاء طوطمها أو أكله إلا عند الجوع الشديد بل حراما عليهم أن يمسوه أو ينظروا إليه أو حتى ينطقوا باسمه وإذا مات أو قتل احتفلت العشيرة بدفنه في مراسم خاصة.
كذلك نجد في عصرنا ما يمكن أن نسميه (النقد الطوطمي)، والناقد الطوطمي ذلك الذي يرى أنه وصل بما كتبه إلى درجة عالية من التقديس، وأن ذلك المكتوب لا يمكن المساس به أو مناقشته أو طرح آراء تناقضه، وذلك يرجع إلى عدة أسباب منها:
- أولا: أن النظرية التي يعتمد عليها الناقد في قراءته للنصوص أو طرح القضايا النقدية نظرية غربية، وموقف كثير من نقاد العرب من النموذج الغربي موقف سلبي، موقف الذي آمن بالمقدس ولفظ ما دونه من علاقات تحاول نسفه أو الاقتراب منه، مع أنه قد يكون مجردا تماما من فهم تلك المعايير والأسس التي بُنيت عليها تلك النظرية، وإذا همَّ بالتطبيق من دون فهم واضح لإجراءات المنهج فهذا يؤدي إلى حدوث المتاهة، التي أشار إليها الدكتور الجراري حين قال « ونحن حين ننظر في محاولات نقادنا في المرحلة الحديثة المعاصرة نجد أنهم سعوا إلى التوسل ببعض مناهج النقد الجديد، التي أعطت ثمارا كلية أو جزئية عند الغربيين، لكن سعيهم لم يتجاوز التجريب الذي يتيح له أن يتم دون الوقوع في الخلل، وهو خلل مرده إلى أن التطبيق لم يكن متقنا وسليما، وما كان له أن يأتي على الوجه الأنسب بسبب الاختلاف الذي يمس نوع المعطيات « (1).
- ثانيا: اعتماده في قراءة النصوص على ما أطلق عليه (رقصة المعنى)، ويقصد بها ابتعاد المعنى عن الثبات الضمني، ومحاولة وضعه في دائرة أكبر من الانتشار والاختلاف، وهو ما جاءت به التفكيكية والتأويلية، حيث إن (إمبرتو إيكو) ذكر أن « النص نزهة يقوم فيها المؤلف بوضع الكلمات ليأتي القراء بالمعنى « (2)، وشعر الحداثة – من وجهة نظر عبد الرحمن القعود – لا يصلح له إلا التأويل، فقد ذكر أن « أصلح شيء لهذا الشعر القراءة التأويلية ؛ لأن هذا الشعر متاهة ؛ ولأنه تساؤل ؛ ولأنه لا يحمل دلالة نهائية محددة، بل هي احتمالية ومؤجلة، والقراءة التأويلية هي القادرة على انتظار المؤجل، وفهم الملتبس وقبول المحتمل « (3).
لكن هذا الاعتماد يشير إلى مأزق خطير، يقع فيه كثير من النقاد التأويليين الذين لا يدركون خطوات القراءة التأويلية للنص، التي تقوم على استثمار المستوى التدليلي الواضح في سبيل الوصول إلى المستوى الترميزي، وعملية بناء التوقعات، وقراءة الوحدات المتتالية والوحدات النصية الأوسع.. وغيرها.
هذا المأزق يتمثل في حدوث الفوضى القرائية وإخضاع النص لتأويلات وتفسيرات لا تمثله، وقد يكون النص لغة ً وتركيبا ودلالة أكثر فهما من القراءة النقدية، فيصبح النص الناقد شفرة تحتاج إلى كلمة سر.
ومن هنا يقع المتلقي في المتاهة، ويغرق في كثير من الدلالات الغامضة، التي تؤكد أمرين: الأول: عدم فهم الناقد للنص الأدبي ورغبته في إبداع نص آخر يكون موازيا للنص الأساس، والآخر: رغبة الناقد في اكتساب صفة (الحداثي) من دون اهتمام بالنص والرؤية النقدية والإخلاص إلى مهنته، فيضع نفسه في دائرة الإغراب والإدهاش، فيقع في كثير من التناقض، فيصير بذلك (طوطميا) يستحق العبادة والتقديس.
ويعلن جوج طرابيشي أن قسما كبيرا من النقد العربي الحديث « هو شيء مما ابتلي به الإبداع العربي الحديث من آفات.. وأن أطنانا وأطنانا من الورق المسمى بالنقد يجب أن يلقى في سلة المهملات فيما لو وجدت سلة مهملات تتسع لها، ولعل هذا ما يفسر ضآلة بل ضحالة دور النقد في حياتنا المعاصرة، فأي جدوى ترجى من نص ناقد ينزل نفسه منزلة النص المنقود، ويتخذه مجرد تكأة يتقول بها بأقاويل ما أنزل الله بها من سلطان « (4).
- ثالثا: إحداث القطيعة بين النص النقدي الحداثي والتراث ، وتخليص اللغة النقدية الحداثية من مفردات النقد القديم، وإعطاء الأولوية في سياق الكتابة للغة الجديدة التي تمزج بين الفصحى والدارجة والعربية والأجنبية بما يتوافق مع المعاصرة.
والمتتبع لكتابات النقاد العظماء الذين قدموا لنا زادا نقديا حديثا، يجد أنهم جمعوا بين التراث والمعاصرة، وحاولوا البحث في الجذور التراثية عما يتماس مع ما شاع من مصطلحات جديدة، ووجدوا ذلك، وذلك لاعتقادهم الراسخ بقيمة التراث وإيمانهم بالمقولة المأثورة « لا جديد لمن لا يلبس الخلقا «.
لكن الناقد الطوطمي خالف كل الثوابت، بل حطمها، ودخل إلى مملكة الحداثة وهو يظن أنه يمتلك أبوابها لا مفاتيحها، اعتقادا منه أن الغريب والمدهش وغير المألوف وسائل غدت دالة عليها، والمتلقي العربي إزاء هذه المكونات لا يملك سوى التسليم والخضوع بكثير من البلاهة، وحتى لا يقال عنه أنه جاهل ربما يصفق لذلك الناقد، ويعده أسطورة من أساطير اليونان أو عنقاء تمتلك سر الخلود والبقاء.
* * *
*لمعرفة فكرة الطوطم يتم الرجوع إلى كتاب جيمس فريزر(الفولكولور في العهد القديم).
(1) عباس جراري،خطاب المنهج، منشورات السفير، المغرب، ط1،1990،20
(2) امبرتو أيكو، التأويل بين السيميائيات والتفكيكية، ت: سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1، 2000، 22
(3) عبد الرحمن القعود، الإيهام في شعر الحداثة (العوامل والمظاهر وآليات التأويل)، عالم المعرفة، الكويت، ع 279، 2002، 297
(4) جورج طرابيشي، ندوة الإبداع والهوية القومية، مجلة الوحدة، ع58 -59، الرباط، 1998
أستاذ النقد الأدبي الحديث المشارك
الرياض