لقد أصبح من الثابت عند كثير من الدارسين أن الرواية بالشكل المعاصر فن غربي استفاده العرب في العصر الحديث عن طريق المثاقفة والتواصل الحضاري، وقد مثلت الرواية العربية منذ البدء مجالا رحبا للمثقفين والأدباء في العصر الحديث لتقديم رؤاهم الأدبية والفكرية حول قضايا المعرفة ومسائل المجتمع، وقد كان من الملاحظ أن الرواية بوصفها فنا غربيا قد استعملها في بداية الكتابة الذين اتصلوا بالغرب في وقت مبكر واطلعوا على علومه، ومن هنا فقد أصبحت الرواية في كثير من الأحوال دالا على الثقافة الغربية من جهتين: الجهة الأولى: أن الشكل في الأصل شكل غربي فهي وسيلة من الأدب الأوربي وعليه تعبر مباشرة عن الالتصاق بتلك الحالة، الأمر الآخر أن الذين كتبوها هم ممن تثقف في الغرب ولذا فهو بصورة من الصور يعبرون عن صورة الالتقاء بين الشرق والغرب ولا يعدون ممن لهم موقف رافض لثقافة الغرب وأدبه، وعليه فإن دراسة الآخر في الرواية العربية تعني دراسة صورة الآخر عند الجماعة التي انتمت إلى المنتج المعرفي والثقافي وليست تبحث في صورة الغرب لدى الموقف الرافض للغرب المتشدد في هذا الموقف.
ومن هنا مثلت الرواية من وجهة نظر بعض الدارسين البيان (بهي، 1991، ص14) الرسمي للمثقفين في موقفهم من الآخر وفي عرضهم لإشكالية العلاقة بالآخر الغربي من وجهة نظرهم، وبناء على الحالة التي اتسمت بها معظم الروايات من كون الشخصية الروائية عربية قد ارتحلت إلى الغرب وتعرفت في طريقها بفتاة فقد تحولت هذه الصلة بين الفتى والفتاة الدال الأبرز على العلاقة بين الشرق والغرب، والبحث في ترميز العلاقة بين الشرق والغرب باعتبار الشاب رمزا للحضارة العربية الإسلامية، والفتاة ترمز للحضارة الغربية، هذه المعادلة بين الرمز والمرموز دفعت جورج طرابيشي بتسمية هذا النوع من البحث بتجنيس العلاقة أي التركيز على البعد الجنسي في العلاقة واعتباره دالا على العلاقة الثقافية أو الحضارية.
وعلى الرغم أن بعد الجنس (الذكر والأنثى) هو في أصله بعد إنساني لا صلة له بالثقافة، فإن التركيز على ما يمثله كل طرف من طرفي العلاقة من ثقافة هو تغييب للإنسان في هذه المعادلة لصالح المثقف، وهو ما يطرح السؤال عن سبب معاناة الإنسان العربي في أوربا من الأوربيين إن كان بسبب اللون أو العرق، ويدفع إلى إعادة النظر في هذه النصوص من حيث إن هذه المشاعر التي يعانيها المثقف هي مشاعر خاصة بالشخصية وحدها وليست بسبب الثقافة أو الاختلاف في الدين؟ وهو ما يدفع إلى السؤال مرة أخرى عن سبب انزياح الدراسات العربية ومن ورائها الرواية العربية لإلغاء وجود الإنسان العربي وتحويله إلى دال ثقافي في مواجهة الإنسان الغربي، ألا يمكن أن يكون دالا سياسيا؟ هل الدارسون العرب والروائيون يعانون من مركب نقص ثقافي حين رأوا أن الفارق والعلة هي في نوع الثقافة وليس في مستواها، يعود إلى ثقافتهم وليس إلى شخصياتهم وتركيبهم؟
لقد دفعت هذه الرؤية الدارسين إلى أن يحولوا النصوص والدراسات التي دارت حولها إلى محاكمة للثقافة العربية، وتصنيفها والبحث فيها، كما يحولون النصوص الروائية باعتبارها بيانات ثقافية سياسية تبين موقف هذا المثقف أو ذاك من الثقافة العربية حتى ولو كانت الدلالة غير واضحة، وهو الأمر الذي انعكس على الجوانب الأخرى من الدلالات التي يمكن أن تقرأ النصوص من خلالها كالتجربة الإنسانية أو الاجتماعية أو السياسية. وأصبحت كل رواية من هذه الروايات تحمل عنوانا يلخص موقف الرواية من الآخر فتأتي رواية قنديل أم هاشم بعنوان المقابلة بين المادة والروح، ورواية الساخن والبارد العقل والعاطفة، ونييورك 80 الانحلال والالتزام حتى ولو كانت هذه النصوص لا تحمل هذه الفكرة بشكل كبير.
وعلى هذا جاء الموقف الذي يراه الدارسون في هذه النصوص هو البحث عن موقف يكون من الآخر للمثقفين وعليه تردد بين الاتجاه الكامل أو الرفض الكامل أو التوفيق، هذا التوفيق الذي يقوم على أخذ بعض القيم وترك أخرى الأمر الذي يؤذن بمواجهة مشكلة تحديد القيم التي يمكن للمثقف العربي المسلم أن يختار منها أو أن يعدها القيم الذي يمثل التنازل عنها تنازلا عن «الذات القومية الحضارية» كما يعبر عصام بهي (1991، ص15)، ذلك أن القيم ليست كلها خلقية وإنما هناك قيم دينية وأخرى سياسية، وبما أنها كلها قيم فإن تحديد القيم المميزة للأنا يصبح قضية فلسفية بناء على تحديد الأنا ومفهومه.
وبناء على هذا التداخل بين الذاتي والموضوعي في تناول الآخر في الروايات العربية من قبل الدارسين رأيت أن أبتعد عن النصوص التي يمكن أن يكون تناول الغرب فيها والموقف منه يتصل بلعبة الترميز والتأويل، واتجهت إلى النصوص المباشرة التي تقدم صورة مباشرة عن الأوربيين وأحكام دقيقة عنهم، وبعيدا عن ثيمة الرجل والمرأة بوصفها طريقة للتواصل بين الحضارتين التي سادت في الدراسات السابقة فإنني سأختار ثيمة أخرى للانطلاق منها في دراسة هذا التواصل إنها ثيمة الرحلة.
لقد مثلت الرحلة إحدى أهم الثيمات التي اتخذها كتاب الرواية طريقا للدخول إلى تقديم صورة الآخر في الرواية، فنجد عددا من النصوص الروائية في جيل الرواد اعتمدوا على تصوير رحلة طالب يعيش يرتحل إلى أوربا للدراسة يعيش حالة من الغربة والشعور بالبعد عما يدور حوله، هذه الحالة التي يعيشها السارد في هذه النصوص تصور الموقف الكلي للإنسان العربي المرتحل إلى الغرب، فالرحلة يجتمع فيها الحسي بالمعنى باعتبار أن الطالب مرتحل بجسده، وهو في الوقت نفسه ميمم وجهتهم لطلب العلم فهو أيضا مرتحل إليهم، ثم هو يعيش حالة من الغربة والقلق في مواجهة هذه الحضارة، فعلى الرغم أنه يذهب طوعا مقبلا غير مدبر، مختارا غير مكره فإن يجد هناك الحواجز التي تمنعه من الدخول في تلك الحياة أمامه، أحيانا بطوعه وأحيانا مدفوعا إلى تلك الزاوية دفعا ليجد نفسه يمثل حضارة قد لا يكون مقتنعا بحذافيرها مما يدفعه إلى المقارنة بين ما يجده في نفسه وما يجده في المجتمع الذي يقابله فيخرج إلى هذه الحالة.
وقد بدت هذه الموضوعات منذ كتابات رائد الكتابة الأولى رفاعة رافع الطهطاوي في كتابه: «تخليص الأبريز في تلخيص باريز» حين كان يسجل ملاحظاته حول رحلته في الدراسة التي قضاها في باريس وهو ما جعل هذه الرحلة هي الوسيلة لتقديم المشاهدات فيها تلتحم الرحلة المعنوية بالرحلة الحسية.
يقوم كتاب تخليص الإبريز على وصف الأيام التي قضاها رفاعة وصحبه في باريس بكل ما فيها بدقائقها وتفصيلاتها، ومن هنا فقد سعى لأن يأتي وصفه شاملا وكاملا، في حين يأتي كتاب أديب لطه حسين يحكي حكاية أحد الأدباء الذين كان لهم رغبة شديدة في الأدب وبناء عليه فهو يلتحق ببعثة الجامعة المصرية إلى باريس، وقبل أن يصل إلى تلك البلاد يبدأ حياة جديدة.
أول ما يراه القارئ وهو يقرأ الكتاب سيطرة ضميره الغائب في وصف الكاتب على ما حوله وما يراه، وهو ما يعني الفصل الحاد الذي كان يشعر به رفاعة تجاه الفرنسين وما يراه حوله من مظاهر حتى ولو كانت مظاهر تقدم وجمال، وعلى هذا فهو يلتزم موقف الرحالة الذي يكتفي بالتقاط المشاهد أمامه دون أن يشعر أنها تعنيه أو أنه جزء منها، فهو يصورهم من الخارج وهو ما يوحي بالموضوعية والنقل والتجرد الذي سيوصلنا إلى الملاحظة الثانية، وهي المقارنة الشديدة بين ما يراه من مظاهر اجتماعية وما يحمل داخله من مخزون معرفي ثقافي عربي، وكأنه لا يستطيع أن ينفك عن ذاته وهو في داخل هذه الحال الثقافية المحيطة به التي ارتحل لأجلها والمسيطرة على المشهد أمامه. فكل ما أشار إلى موقف أو قضية ذكر ما يؤيد هذا المذهب عند العرب أو يخالفه، فالحديث عن الوفاء والمروءة يستدعي عنده موقف الخوارزمي من الصاحب ابن عباد، موقف الحرص على التميز في عملهم يستدعي عنده قول ابن دريد، وندرة وحين يتحدث عن محبة أهل باريس للسفر والتنقل يستدعي قول الحاجري، فهو يفاجئنا بأنه لا يذكر، قد يصف موقف الفرنسيين بالشنيع أو يصفه أحيانا بأنه موقف العرب الصحيح إذا أعجبه. وكأن المقابلة لدى رفاعة مقابلة بين ثقافتين ثقافة عريضة تتصل بوجدانه وقلبه وهي الثقافة العربية وثقافة أخرى تتصل بعقله ارتحل إليها، وليس سرا أن هذه المقارنات كانت في الغالب لصالح العرب الثقافة الأصلية. بل يتجاوز ذلك لإصدار الأحكام القاطعة على ما يراه أمامه من مشاهد يشعر أنها لا تناسب مع ذوقه فنجده لا يتردد أن يقول: «ومن خصالهم الرديئة» (الطهطاوي،1993، ج2، ص153)، «ومن عقائدهم القبيحة» (1993، ج2، ص154)، بل أبعد من ذلك حين يجمل القول في باريس بقوله: «وبالجملة فهذه المدينة، كباقي مدن فرنسا وبلاد الإفرنج العظيمة، مشحونة بكثير من الفواحش والبدع والاختلالات» (1993، ج2، ص154).
هذا الذوق الذي انطلق منه في الحكم على ما يراه أمامه تكون من خلال ثقافته الأزهرية الأولى التي شكلت الأساس التي أنشأ عليها منظومته المعرفية، وهو ما يعين أن ذلك التجرد الذي حاول أن يظهر به لم يكن دقيقا بناء على خلفيته الثقافية التي أسسها من قبل، وهنا يتبين لنا أن رائد التنوير العربي الأول لم يكن شخصية مستلبة أمام الثقافة الغربية وإنما ظهر بوصفه شخصية علمية كبيرة استطاعت أن تتماسك أمام باريس وأهلها، فلم يكن رفاعة الطهطاوي في وصفه لباريس بذلك المنجذب الواقع في حبها وحب أهلها حبا غير واع، وكما لم يكن بعيدا عن ذاكرته وثقافته العربية بل صادرا عنها ومتخذا إياها الأساس المعرفي الذي يحاكم الأشياء من خلاله بالإضافة إلى عقله الكبير، وهو ما يعني أن رفاعة قد تجاوز في موقفه من الغرب المواقف النمطية التي تصنف عادة إلى مواقف ثلاثة: القوبل الكامل، والرفض الكامل والتوفيق بين هذا وذاك، إلى أن يكون منظومة ثقافية تهضم باريس والباريسيين في داخلها لتقدم شخصية حضارية مستقلة هي رفاعة الطهطاوي العربي المسلم المستنير.
الرياض