«هاشم القريشي» عرفته في بيروت صديقاً يقود حركة سياسية ومشغول بهموم الدنيا وتغيير طبيعة أنظمة. اجتماعات وبيانات سياسية وجبهات وطنية واعتراك سياسي ودفن شهداء، ثم جاءت إسرائيل لتحتل لبنان وصار كل واحد منا يبحث عن ملجأ جديد! وتباعدنا مكاناً وهموماً ومواقف!
ذهبت إلى مدينة مالمو في السويد لحضور عرض فيلمي «المغني» وبالضرورة يأتي العراقيون لمشاهدة الفيلم ويشغلون أكثرية من كراسي صالة السينما. «هاشم القريشي» أحدهم . في اليوم التالي دعاني إلى بحيرة ومقهى لها تاريخ وأصوات عصافير ومتاحف والناس تتحدث همساً وأول ما جلسنا قدم لي هدية، ديوان شعر يحمل عنوان «أحاديث المدينة» وتحت العنوان مكتوب الجزء الثالث. وموقع باسمه ومهدى لي بتاريخ 24 /9 /2011.
كنت متشوقاً أن أقرأ ما كتب من الشعر وعن أية موضوعات تبحر نحوها القصائد. خفت أن أرى المناجل والمطارق والبنادق.
أن يتحول السياسي المقاوم والمعارك إلى شاعر ويطلق ذلك العالم شبه المخبول بفوران تغيير العالم حسب الرغبات والأمزجة فهو شيء جميل وبادرة أكثر من حسن نية، بل هو شعور بالإرتقاء نحو مرحلة ما بعد الإنسان .. الشاعر، الفنان، المرهف الذي يهرب حتى من صخب المدينة السويدية التي هي أصلاً تكاد تكون ساكتة أو هامسة فيذهب للأبعد حيث أحاديثها عصافير وخرير مياه وحفيف أوراق الشجر.
يا إلهي .. كم أضعنا من الوقت .. كم أضعنا من العمر دون أن ندرك الخطأ والصواب.
الخطأ والصواب على المستوى الشخصي وعلى المستوى العام كي نعيش بنعمة الاستقرار وقناعة الاكتفاء.
وجدت بيته حديقة وغابة عصافير تؤنسه، وفي كل شهر يجمع الكتاب والشعراء فيلتقون في أمسية يقرأون الشعر وينشدونه لحناً. إذاً لماذا كل ذلك الاعتراك والصراع والصياح!؟ ولماذا دوي كل تلك المدافع التي لم تخلف فينا سوى الحقد والكراهية والطرش عن سماع اللحن الأجمل.
تساءلت وأنا أقرأ في ديوانه. كم هو جميل أن يتحول السياسي إلى شاعر .. إلى شاعر حقيقي!؟ ترى لماذا سنسمع ذلك الصراخ المقيت لمغلوبين يتمتعون بالظهور على شاشة التلفاز بدون ملامح وبوجوه مغطاة بالغتر والصوت يتكرر ويفزعني وأسمعه وأنا على وسادة الليل «الشعب يريد إسقاط النظام»!؟من هو الشعب؟ ومن هو النظام؟ ولماذا هما مختلفان لو تحول الشعب إلى شاعر والحاكم إلى شاعر وكلاهما يعرف معنى المحبة ومعنى البحيرات ونغم السيمفونية ولذة الشعر!؟
هو نفسه الشاعر يحول موقفه السياسي إلى موقف مرهف في الشعر. فيقول:
«الظلام صار يقرع وجه النور
نسي أنه ركب قطار الأمس
مودعاً المحطات والقطارات
أفاقه قاطع التذاكر
سأله عن تذكرة السفر إلى حلب
ركب القطار سهواً ونام من شدة التعب»
حسناً يا صاحبي وصديقي هاشم القريشي، أستحلفك بالله، إذا كان الشاعر نائماً في جبة السياسي فلماذا لم تخلع الجبة منذ الصبا كي ينهض الشاعر الأنيق فيك!؟
في حياة هذا الشاعر ثمة محطة جعلته يفيق دون أن يسمع صفارة قطار الإنذار. تعب الشاعر من رحلة العمر الطويلة والمثقلة ب «آثام النظال!» فسقط مغمى عليه وهو في عاصمة عربية. وجد نفسه على سرير بعد أن أفاق من الإغماءة فشعر أنه في مستشفى وسمع مواء قطط. ظن أنه في حلم. قال لنفسه إستيقظ فأنت كمن يحلم. وجد نفسه في اليقظة لا في المنام، وإن القطط ليست كابوساً بل تتجول في زوايا الغرفة علها تعثر علي «شقفة» من لحم تركها الطبيب سهواً ولم ينظفها الخادم! صرخ طالباً سفير السويد الذي صار سفير بلاده بالتجنس! بعد وقت جاءه السفير فوجده وهو في اللحظات الأخيرة. فأتى له بطائرة الصليب الأحمر المجهزة بمستشفى متنقل ونقله إلى مالمو. وصار تحت العلاج في الطائرة ثم وصل مالمو وخرج مشافى وأهداني ديوان شعره الأنيق «أحاديث المدينة!»
سينمائي وكاتب مقيم في هولندا
sununu@ziggo.nl
هولندا