لَو أَنَّ قَصْرَكَ يَا ابنَ يُوسُفَ مُمتَلٍ
إِبَـرَاً يَضِيـقُ بِهَا فِنَاءُ المنـزِلِ
وَأَتَاكَ يُوسُفُ يَستَـعِيرُكَ إِبْـرَةً
لِيَخِيطَ قُـدَّ قَمِيصِهِ.. لَم تَفعَلِ!!
9- القافية المتمكنة البديعة، ولا أظن أنَّ هذه الملاحظة والتي قبلها تخفيان على صاحب الأذن الإيقاعية والحس المرهف، فحرف اللام من أكثر الحروف التي يستخدمها الشعراء في قوافيهم، كما أنَّ أكثر صورها استعمالاً وقوعها مكسورة، والمتأمل في موقعي الكلمتين الأخيرتين من البيتين يلحظ بأنهما جاءتا في مكانهما دون تكلف أو استدعاء.
10- البساطة والوضوح وعدم الغرابة، وهذه الصفة ليست بجديدة، بل هي نتاج ثلاث ملاحظات سابقة، فقد جمع هذا النص الألفاظ السهلة الواضحة، مع الإيقاع المعروف الغالب، مع القافية المتمكنة المشهورة، وقلما تجد بيتاً بهذا الإبداع وهذا المستوى الفني العالي يجمع بين هذه الأمور.
11- الإيجاز اللافت للنظر، ولا يلحظ هذه الميزة إلا من يقرأ ما قاله الشعراء في مثل هذا الغرض، أقصد الهجاء بالبخل تحديدا، فترى منهم مَن يُبدئ ويُعيد ويُطيل الأبيات لكي يصيب الغرض ويصل إلى المعنى، وهو يظن أنَّ هذا هو السبيل الأمثل للنيل من مهجوه، لكنَّ هذا الظن يتهاوى أمام هذا النص الذي استطاع مبدعه أن يصيب الهدف وزيادة بأقصر الطرق وأقل الألفاظ، والإيجاز في هذا النص هو إيجاز القِصَر، وهو تأدية المعنى الكثير باللفظ القليل، وهذا الإيجاز أبرز ما يميز هذا النص، وما جاءت هذه المجموعة من المقالات إلا لتكشف عن بعض المعاني التي استطعت اكتشافها من ألفاظ هذا النص القليلة المحدودة.
12- تَفجُّر الدلالات بشكل بارز، وتناثر المعاني بطريقة عجيبة مثيرة، وهذه الميزة لا يلحظها إلا مَن يطيل التأمل في النص ويتدبر في ألفاظه ودلالاته، والأهم من هذا وذاك أن يتعايش معه مدة ليست بالقصيرة، ولا تحسب أيها القارئ الكريم أنَّ الكشف عن هذه الدلالات -التي اطلعت عليها خلال الصفحات السابقة- قد أتى من قراءة واحدة للنص أو حتى قراءتين أو ثلاث، أو أنه جاء في يوم وليلة، ولذلك فكلما ازداد تأملك للنص وزادت المدة التي تقضيها في تدبره والتعايش معه تتفاجأ بانهمار الدلالات على ذهنك إلى الدرجة التي تتمنى معها أن تقف كي لا يطول التحليل.
وليست كل النصوص تتفجَّر منها الدلالات لطول التأمل والمعايشة، بل فقط النصوص المتميزة التي تحمل ثراءً دلالياً لافتاً، وإلا فهناك من النصوص ما يكون فقيراً دلالياً من الأصل، ومهما تأملت فيه فإنك لن تخرج منه بالكثير، أما هذا النص فقد استطاع مبدعه أن يجعله قابلاً لهذا التفجُّر عن طريق نظمه لألفاظه ودقة اختياره لها وأسلوبه في عرضها، واستثماره للفنون الجمالية في إبراز معانيه مما يجعل النص خالداً لا تنقضي أسراره ومفاجآته.
13- تعدد الأوصاف وكثرة العيوب، فأيُّ قارئ لهذا النص سيعي فوراً أنَّ الصفة الرئيسة التي يريد الشاعر الكشف عنها ووصف المهجو بها هي البخل الشديد، لكن المتأمل سيدرك أنَّ النص يشي بصفات أخرى من شأنها أن تحط من قدر هذا البخيل إلى أسفل سافلين، وهذا بلا شك انعكاس لنفسية الشاعر وشدة غضبه على هذا المهجو، وهي نفسيةٌ جعلت من نظم هذه الألفاظ تفيض بهذه الأوصاف القبيحة التي يستحقها هذا الموصوف.
فإن كان البخل الشديد هو الصفة الرئيسة التي يكشف عنها النص فإن المتأمل سيدرك أيضاً: الدناءة والخسة والعجز وردَّ السائل المحتاج وعقوق الوالدين وعدم احترام الأنبياء، بالإضافة إلى قسوة القلب وحب النفس وعدم التفكير بالآخرين، كما سيلمح المتدبر المدقق في هذا النص الجشع والطمع وعدم الثقة بالآخرين وإساءة الظن بهم وانعدام الرحمة، كل هذه الصفات وربما أكثر تتداعى على ذهن القارئ الحاذق الفطن لهذا النص الثري.
14- التلاحم الشديد بين البيتين وعدم انفكاكهما عن بعض، وطالما نبه النقاد على هذه الخاصية، وجعلوها شرطاً لبلوغ الكلام الغاية في الجودة والإتقان، وخصوصاً عبد القاهر الجرجاني الذي كان كثيراً ما يؤكد على هذه النقطة، ولذلك فأبلغ الكلام لديه هو ما اتحدت أجزاؤه، ودخل بعضها في بعض، واشتد ارتباط ثان منها بأول.
والشاعر يعتمد هنا على (لو) وما تحتاجه من فعل وجواب لإبراز هذا التلاحم، فهذا الأسلوب يجعل الارتباط بين البيتين في غاية الشدة، والتلاحم بينهما في منتهى القوة، بحيث لا يمكن أن يستغني أحدهما عن الآخر، وهذا من شأنه أن يجعل القارئ في قمة المتابعة وعلى أهبة الاستعداد في كل لحظة لنيل المعنى تاماً كاملاً، ولن يكون ذلك إلا بعد أن تنتهي آخر كلمةٍ في النص، وبالتالي فلا يمكن أن يُفوِّت القارئُ أيَّ حرفٍ منه لما يراه من شدة التلاحم بين أجزائه.
ولا يقف التلاحم والترابط بين البيتين عند هذا الحد، بل إنَّ المتأمل فيهما يجد بينهما من وشائج القربى والصلات ما هو أكثر من هذا، وأبرز ما يمكن أن يلاحظه القارئ من هذه الروابط ما يلي:
أ- رابطٌ معنوي، يتجلى في استمرار الخطاب الموجه إلى هذا المهجو، فالنص كله خطاب موحد إلى الضحية ابن يوسف.
ب- رابطٌ لفظي، ويتجلى في وجود الضمائر المتصلة (كاف الخطاب) في كلا البيتين، وهذه الكاف في جميع مواضعها تعود على المخاطب المهجو ابن يوسف، فنجد في البيت الأول: (قصرك)، ونجد في البيت الثاني: (أتاك)، و(يستعيرك).
ج- رابطٌ لفظي آخر، تجده في لفظة (يوسف) في البيتين، فالأول جاء مسبوقاً بـ(ابن) ليُنص به على اسم هذا البخيل، والثاني جاء كاشفاً عن اسم الفقير المحتاج، وهذا الربط هو الذي أثرى الدلالة وجعل القارئ يتحيَّر في هويته.
د- رابطٌ لفظي ثالث تلحظه في مادة (الإبرة)، هذه المادة التي جاءت في البيت الأول في سياق وصف قصر ابن يوسف بأنه قد فاض بها، وجاءت في البيت الثاني في سياق طلب يوسف لإبرة واحدة كي يخيط قد قميصه.
15- قبول المبالغة في النص، فقد قرر البلاغيون أنَّ المبالغة إذا وصلت إلى مرحلة الغلو فإنها تُقبل إذا دخل عليها ما يُقرِّب إلى الصحة، والشاعر هنا يعتمد في ذلك على أمرين:
أ- (لو) التي جعلت القارئ يتقبَّل هذا المشهد الذي تتدفق منه المبالغات بشكل هائل، وتجعل الأمر برمته افتراضيا.
ب- إخراج النص مخرج الهزل والسخرية، ومثل هذا الأمر لا يمكن أن يفوت على القارئ، وهذا يجعل المشهد مقبولاً مُستساغاً على كافة المستويات.
16- تركيبة من مشهدين: ثابت ومتحرك، وقد أوضحتُ ذلك فيما سبق، بل إني قسَّمتُ هذا النص إلى مشهدين: المشهد الأول مشهد ثابت وصفي كان الشاعر فيه يصف ويقرر ويُخبر فحسب، والمشهد الثاني مشهد متحرك تمثيلي تتحرك فيه الشخوص وفيه طلبٌ ورد، وهذا مما يميز هذا النص عن غيره من النصوص التي تكتفي عادة بالوصف فحسب في مثل هذه الأغراض فتبقى جامدة لا أثر للحركة فيها، وبالتالي تفتقد إلى التشويق والمتابعة.
-
+
Omar1401@gmail.com
- الرياض