يأتي «العلي» إلى تحليل ونقد المكونات الثقافية السائدة، من مسلَّمة أوضحها في إحدى مقالاته، بأن: «في كل مجتمع ثقافتان: ثقافة تستنهض الوعي وتفتح أمامه نوافذ للتفكير المتطور، وثقافة أخرى تشدّه إلى الوراء، وتترك على وعيه ظلمات بعضها فوق بعض. ومنتجو هذه الثقافة هم الأكثر عدداً في ساحتنا كلها». (العلي شاعراً ومفكراً - ص 68). وسنستشهد بتمثلات اهتماماته تلك في وقفات متتابعة حول المحاور الآتية: البُعد اليومي، قضايا اللغة والتراث، البنى المعيقة لتطور ثقافتنا، إشكالات فكرية، العلي ناقداً أدبياً، وسواها. ولعل من المهم هنا الإشارة إلى أنني قد عمدت إلى إيراد مقتطفات متعددة وطويلة أحياناً من مقالاته القصيرة المرتبطة بهذه المحاور، ووضعها أمام القارئ في حيز واحد؛ لكيلا يضطر لبذل جهد شاق لتتبعها في مواقع متفرقة من الكتب التي أصدرها بعض أصدقاء «العلي» ومحبيه، والتزموا فيها طريقة تجميع كتاباته، بحسب التسلسل الزمني لنشرها، وليس بحسب الموضوع أو الفكرة.
أولاً: «البُعد اليومي»
يحضر البُعد اليومي في «مرآته»، لا كموضوع صحفي محدَّد، وإنما كمحفّز على التأمل والمقارنة وطرح الأسئلة، وتتنوع موضوعاته من أبسط المشاغل الحياتية للإنسان إلى أعقدها، من البلوت، والأسهم، وبرامج التلفزيون، والمونديال، والشعوذة، والرشوة، حتى معرض الكتاب، والإنترنت، وثقافة الديمقراطية وحقوق الإنسان، والانتخابات.
وبالرغم من صعوبة اختيار النماذج المعبِّرة عن تلك التجربة الشاسعة إلا أننا سنضطر للاكتفاء بعرض بعضها، وإن بإيجاز مخلّ، هنا:
أ - البلوت:
يستهل مقالته المنشورة في 28-3-1391م، بـ «بيلوت.. بيلوت.. بيلوت»، لا ليحتفي بجمالياتها أو بتبديدها الوقت، ولكن ليقف عليها كشاهد على التغير في حياتنا، فيختار أنموذجه الدال من «الليل».. فالليل كان محطة استراحة أو عطالة حتمية للإنسان في الماضي، وزمناً خاصاً للشعراء يتأملون فيه وجه «القمر»، ويحيلونه إلى صور شعرية فاتنة. أما البلوت فإنه وليد ذلك التغير الهائل الذي بنى المدينة واخترع مولدات الكهرباء، وبدّل أساليب العمل البشري، وطريقة الاستمتاع بالزمن، ففرّ الليل من سدوله المعتمة بل من الحياة، بكل ما يرمز له من دلالات تاريخية، أصبحت قديمة. ولذلك ستكون هذه المقالة فاتحة لمئات من مقالاته القصيرة التي عنيت بقراءة أبعاد التغير والسيرورة الحياتية ووسائل الاستمتاع بالوقت أو قتله، التي عبّر فيما بعد عن نماذجها المستحدثة، من التلفزيون والمونديال إلى الجوال وإلى الإنترنت!
ب - مرتزقة!
سأورد بعض عبارات من هذه المقالة:
«مرتزقة.. كلمات نسمعها.. وتعني أولئك الذين يبيعون جهودهم وخبرتهم القتالية بالعملة النقدية دون ارتباط بهدف..
ولكن هل هؤلاء وحدهم المرتزقة؟!
- ألا يقف في الصف الأول من صفوف المرتزقة ذلك المدرس الذي لا يهمه أن ينجح طلابه وبفَهْم؟
ألا يصلح أن يكون قائداً للمرتزقة ذلك الطبيب الذي لا يعنيه أن يبل مريضه؟؟
- بلى إنهم جميعاً مرتزقة..
وهكذا.. سلسلة طويلة من المرتزقة نراها كل يوم.. ولكن بقي السؤال الصارم والأكثر عمقاً، وهو: ألا أقف أنا وتقف أنت أيها القارئ ضمن هذه السلسلة أمام المرآة؟؟». (محمد العلي شاعراً ومفكراً ص 20- عام 1391هـ).
نعم.. ذلك هو السؤال الذي طرحه كاتبنا قبل أكثر من أربعين عاماً ولم يزل حياً بيننا، نتأمله على ضوء معرفتنا بأن الإنسان ليس من الملائكة، وأننا لم نزل نعيش في ظل غياب القانون وآليات المساءلة والمحاسبة في بلادنا؟؟
ولكن الأهم هنا أننا سنرى أن «مرآة العلي» المحايدة والشفافة والصادقة لن تكتفي بتعرية الواقع والآخر، بل ستذهب إلى تعرية الذات.. ذات كل منا أيضاً!
ج - الأسهم:
ملخص مضمون المقالة يشير إلى أن «الكاتب» كان يمتلك مبلغاً يساوي قيمة عشرة أحمرة (بحسب نصه)؛ فقام باستثماره في سوق الأسهم، ولكن كارثة السوق جعلته لا يستعيد منها إلا قيمة حمارين..
وبعد ذلك يورد قصة حدثت لأحد ضحايا السوق، واسمه - كما ورد في الصحف - أبو عبد الله «الغامدي» الذي أمّ المصلين في صلاة المغرب، وبدلاً من البدء بقراءة سورة الفاتحة فإنه استمر في ترديد قوله «أشهد ألا إله إلا الله» حتى نبَّهه المصلون خلفه إلى الفاتحة.
وهنا لا يلبس الكاتب ثياب محللي الأسهم ولا علوم الاقتصاديين، وإنما يذهب إلى طريق آخر، لا لينبه فيه إلى خطورة أسواق الأسهم وما يجري فيها من تدليس، وإنما ليرفع القضية اليومية من واقعيتها التي ألفها الناس إلى مستوى التحاور مع بنية «ذهنية التحريم» الثقافية والفكرية التي يلجأ إليها أصحاب منهج قياس الشاهد على الغائب في كل شؤون حياتنا إلا «الأسهم»، فيقول متسائلاً: «أبو عبد الله ليس استثناءً، وإذاً لماذا لا تحرَّم الأسهم، كما حُرِّمت الخمر؛ لأنها تصد عن ذكر الله؟».
د- لعبة الأقدام:
توقف في مقالات مكثفة ومتواصلة عدة أمام أحد «المونديالات»، وحلل ما يقبع خلف هذه اللعبة من قوانين، ومن مشاعر، ومن تقاربات وافتراقات، وشمل ببصره اللعبة واللاعبين والجمهور والحكام، والمدربين... إلخ.
وخرج من ذلك بتحليل ثقافي عميق لهذا الفعل اليومي العابر، رفعه من مستواه التداولي إلى أبعاد دلالات ثقافية عريضة، نختار بعض عباراتها شديدة الدلالة فيما يأتي:
- «لن تجد قانوناً عالمياً مطبقاً بدقة نهائية مثل قانون كرة القدم.. إنه لغة تتكلم بها الأقدام، وتعرفها جميع العيون في العالم».
- «بعض الأقدام تجاوزت صراع الأفكار بين الروح والجسد؛ لأنها متأكدة من أن الروح والجسد شيء واحد.. فالهدف لا يحرزه الجسد وحده ولا الروح وحدها.. يحرزه الإنسان بلاء أجزاء..» (ولنلاحظ التورية الكامنة في كلمة الهدف).
- «أحب كرة القدم؛ لأنها لا تحمل أحكاماً مسبقة؛ فالأحكام المسبقة هي التي أعاقت وتعيق البشر، أو معظمهم عن رؤية الواقع وعن قراءة التاريخ قراءة ناقدة وموضوعية».
- «حكام المباريات يشغلون مهنة من أصعب المهن وأعسرها.. يركضون ويتابعون ويحكمون بالقانون، ومع هذا تلاحقهم لعنات النقاد والجماهير! أما (حكّام دول اللاعبين).. فإنهم يمشون حتى في المدرجات كالطواويس..».
- «إنها لغة لا يمكنك فيها أن تكذب مثل لغة الأفكار.. إنها عارية تماماً من الأقنعة والرموز وضباب الماضي».
- «إنك - وهذا هو الجوهر - تستطيع التعبير فيها عن نفسك، أما لغة الأفكار فهناك سيوف صقيلة تمنعك من هذا الحق البسيط في التعبير عن النفس».
(كلمات مائية - ص 163-171)
هـ - فأرة «الإنترنت»:
بعد أن يتحدث عن معاناته في تعلم أوليات استخدام الإنترنت.. ويعبر عن ابتهاجه بما يتيحه له هذا العالم من ممكنات الاطلاع على ما تعبر عنه الأقلام والضمائر من غليان، لا يمكن الوقوف عليه في الكتب ولا في المقالات التي تنشرها الصحف، يقوم بعد ذلك بعملية انزياح كامل من مجال دلالة وحالة محددة في بعدها التداولي اليومي، إلى أفق تساؤل لافت هو: «هل أخذت فأرة (النت) من أخيها فأر (سد مأرب) طريقة هدم السدود؟». (كلمات مائية - ص 501). .. ونقول معه: نعم.. هذه الفأرة الصغيرة هي رمز لهدم السدود، وتجاوز الحدود، وكسر كل القيود، وعوناً لكل الشعوب المقهورة على التعبير عن مشاعرها والمطالبة بحقوقها أيضاً، ولا أدلّ على ذلك من فأرة الإنترنت التي حرّكت الشوارع العربية في هذه المرحلة التاريخية الرائعة من حياتنا!
و - الانتخابات لا تصلح لمجتمعنا:
يطرح هذا الرأي المستفز تحت غلالة عنوان شديد المواربة هو «لم نصل بعد».. ويذهب للقول: «مضى زمن بعيد حين سمعنا بكلمة انتخابات، وسمعنا كذلك بمجلس الشورى.. وحين سألني أحد إخواننا الصحفيين عن الأفضل في كل حقل.. أهو الانتخاب أم التعيين؟
كان جوابي: إن التعيين أفضل من الانتخاب..
مضى زمن وجاء زمن.. ولو طُرح علي السؤال مرة أخرى لأجبت على الفور: أفضّل التعيين؟؟».
وقد انتقدتُ، ومعي الكثيرون، هذا الرأي الذي يكرس ثقافة الاستبداد، ولكن الكاتب يكسر في مقالة تالية بعنوان (كيف نصل) حمولات ذلك الرأي المستفز، حين يقف بنا على شروط الوصول إلى تلك المرحلة بقوله: «أعرف أن لا وصول إلى الديمقراطية دون انتخاب.. ولكننا لا نملك شرطاً واحداً من شروطها.. لأنها تتطلب التخلي عن القبلية، عن التقليد، وتحتاج إلى أن يكون الانتماء للوطن، وفَهْم معنى القرار والهدف من اتخاذه، والفَهْم الأخلاقي لمعنى الاختيار.. إلخ».
ويمضي في تحديد أهم تلك الشروط وهو: وضوح معنى الإرادة العامة للمجتمع لدى كل أفراده، والإقرار بالتعددية، والتعددية في وجهة نظره «ليست فقط حرية التعبير الكاملة، بل تعني وجود أحزاب علنية تطرح برامج واضحة تتجادل مع بعضها.. ثم يختار الفرد أكثرها تحقيقاً للمصلحة الاجتماعية وفق الظروف الآنية..». (كلمات مائية - ص 105، و112).
-
+
الدمام