البطولة في معاجم اللغة تعني الشجاعة، والبطل هو الشجاع. يقول في لسان العرب: «رجل بَطَل بَيِّن البَطالة والبُطولة: شُجَاع تَبْطُل جِرَاحته فلا يكتَرِثُ لها ولا تَبْطُل نَجَادته، وقيل: إِنما سُمّي بَطَلاً لأَنه يُبْطِل العظائم بسَيْفه فيُبَهْرجُها، وقيل: سمي بَطَلاً لأَن الأَشدّاءِ يَبْطُلُون عنده، وقيل: هو الذي تبطل عنده دماء الأَقران فلا يُدْرَك عنده ثَأْر من قوم أَبْطال». ويلفتنا في هذا المعنى اللغوي صلة البطولة بالذكورة، من خلال صلة معناها وهو الشجاعة بالذكورة، إذ يرد –أيضاً- في لسان العرب: «والشَّجِعةُ من النساء: الجَريئةُ على الرجال في كلامها وسَلاطَتِها. وقال أَبو زيد: سمعت الكِلابِيِّينَ يقولون: رجل شُجاعٌ ولا توصف به المرأَة».
وما تزال الشجاعة في لغتنا التي تعبِّر عن ثقافتنا قيمة رجولية خالصة، فالرجل الجبان والضعيف يُعيَّر بأنه «مِثْلُ المرأة»، والبُكَاء بوصفه علامة ضعف وخَوَر هو صفة أنثوية، و»الرجل لا يبكي». وتشيع في مجتمعاتنا عبارات المديح للمرأة بنسبتها إلى الرجال، فيقال: «أخت الرجال» و»بنت الرجال». كما تشيع نسبة الصفات البطولية دوماً إلى الرجل، فيقال للاستيثاق من الوفاء «كلام رجال؟!» ويقال القول نفسه للتعهد وقطع الشك. وما تدخره الأمثال والأشعار والحكايات من دلالات التمييز بين الرجل والمرأة من جهة البطولة والشجاعة بالغ الوضوح. فالمرأة في الثقافة هي موضع العار والشرف الذي يجعلها همّاً وعبئاً، والمديح الشعري في الديوان العربي، ومشتقاته في الفخر والرثاء وما هو بالضد منه وهو الهجاء، موجَّه إلى الرجال، بما أكَّد معانيه للبطولة في مدار الذكر لا الأنثى. والأنثى ذاتها هي في أحد تجليات الدلالة على البطولة الملحمية والقيادية محك الشهادة على بطولة البطل الذي يحميها وينقذها.
ومن مرويات الجاحظ في كتابه «البيان والتبيين» القول: «لا تستشيروا معلما ولا راعي غنم ولا كثير القعود مع النساء»، أو القول: «لا تدع أم صبيك تضربه، فإنه أعقل منها وإن كانت أسن منه»! ومعنى هذا ينتهي بنا إلى أدوار البطولة والقيادة والتوجيه التي خصصتها الثقافة للذكر وحَرَمَتْ منها الأنثى بل وعدَّتْها عامل هدم وتزييف لها. فالقعود مع النساء يفقد المرء كفاءته العقلية والأخلاقية، ولهذا يصبح مَنْ أَكْثَر القعود مع النساء غير مؤهل، من وجهة النظر الذكورية، للاستشارة. وضَرْب المرأة ابنها عامل تدنيس للذكورة وإهانة لها، فليس لها أن تضربه، ومنطق هذا القول، كمنطق سابقه، ينفي عن المرأة ما هو من خصائص الرجل ثقافياً وهو العقل، والعقل قرين الشجاعة والكرم في مديح البطل.
ويَرِدُ -مثلاً- في حماسة أبي تمام: «وقال الهذلول بن كعب حين رأتْهُ زوجته يطحن مَحْنِيّاً فصرخت مستنكرة :أهذا زوجي؟! وضربت صدرها بيدها متحسرة. فالتفتْ إليها وقال على البديهة:
تقول - ودقّتْ صدرها بيمينِها
أَبعلي هذا بالرحى المتقاعِسُ؟!
فقلتُ لها لا تعجلي وتبيَّني
فَعَالي إذا التفَّتْ عليَّ الفوارسُ
فالمرأة هي من يقعد على الرحى، وهذا ليس مكان الرجل، ولهذا صوَّر الشاعر قعوده على الرحى من خلال رؤية المرأة له، ليدلل على المفارقة التي استدعت من زوجته أن تدق صدرها بسبب دهشتها وعجبها مما رأته، وسؤالها بشكل طافح بالتعجب: «أبعلي هذا بالرحى المتقاعس؟!» وهو تعجب لا ينفصل عن معنى الإنكار الذي يشي بخوف المرأة من زلل الألسنة عليه وطعنها في رجولته، وهذا ذريعة يصطنعها الشاعر لتعميق دلالة فخره بنفسه. ولهذا جاء البيت الثاني، في موضع الرد على الإنكار وتهدئة العجب، من خلال مقابلة ضمنية بين القعود على الرحى، الذي اختصت به المرأة ثقافياً، والبطولة التي تتجلى في الفعال إذا التفَّت على البطل الفوارس، وهي مجلى الرجولة واختصاصها الذي يغدو باب امتياز وتميز عن المرأة وعن عملها في القعود على الرحى واتقاء المواجهة للحتوف والمصاعب.
لكن الدلالة اللغوية التي تعيِّن معنى البطولة في الشجاعة، لا تكفي لفهم مدلول البطولة، فالشجاعة هي –فيما تحكي المعاجم اللغوية- «قوة القلب عند البأس» وهي مرادفة لمعنى الجرأة الذي تفسره بعض المعاجم بها، فيرد أن الجرأة هي «الإقدام على الشيء والهجوم عليه» وهي «الشجاعة». فاللص شجاع إذا أردنا وصف جرأته، وهي جرأة تنطبق أيضاً على وقاحة الكذَّاب، ولؤم الخائن، ونذالة المعتدي. فهل نعدُّ جرأة أيٍّ منهم بطولة؟ وهل يتمدح أحد بشجاعة من هذا القبيل؟!. كلا! فهل يصح –إذن- أن نصف البطل بسبب جرأته وشجاعته فقط؟. إن البطولة صفة مدح، وهي -إذن- صفة دالة على الشجاعة، لكن الشجاعة في ما يغدو حاجة اجتماعية، فالبطل شجاع لأنه يدافع عن المجتمع، والقبيلة، والأمة... إلخ. وفلان بطل لأنه أنقذ غريقاً أو نصر ضعيفاً أو اجتاز عائقاً ليَسُرَّ الآخري ن.
لهذا اقترنت شجاعة البطل بصفات أخرى، فهو كريم وأمين، وهو عاقل وحازم، وذو ذكاء وفِطْنة... إلخ وهذه الصفات وغيرها هي ما تصنع منها الثقافة بطولة الأبطال. ومؤكَّدٌ أنها بطولة مصنوعة بما ترغبه المجتمعات وما تحلم به، ولذلك فلكل مجتمع أبطاله، ولكن البطولة –في الوقت نفسه- مشترك إنساني تجاه ما يضاد الإنسان ويعوقه، تجاه الشر ورموزه وتمثيلاته المختلفة. ولذلك يمكن أن نرى في الأبطال هذا الوجه الإنساني المجاوز لمحليتهم، فنيلسون مانديلا الذي قاد شعبه في جنوب أفريقيا إلى الانتصار على ظلم التمييز العنصري، هو بطل إنساني يحظى بالتقدير في كل مكان، والمهاتما غاندي الذي قاد شعبه في الهند للانتصار على الاستعمار الإنجليزي هو الآخر رمز إنساني على الكفاح وبطل بهذا المعنى المحلي ولكنه الإنساني في مؤداه وعمقه لأنه انتصار للحرية من حيث هي رغبة ليست مقصورة على الهنود دون غيرهم.
وصحيح أن البطولة في الأصل تحيل على الصراع، والبطل محارب يحمل لأْمَة المعركة وأسلحة القتال، والحرب دلالة ملزومة له، فلا بطل من غير معركة. لكن الصراع في معناه الواسع ليس حرباً بالمعنى القتالي المادي، ولا يستلزم دوماً البطل المقاتل بما يتصف به من قوة الجسم والفتك بالأعداء وإسالة الدماء. وهذا يعني اتساع دلالة البطولة باتساع دلالة الصراع البشري، فهناك صراع ضد تهديد الطبيعة، وصراع ضد الجهل وضد الغرائز وضد الفقر والمرض وضد الفساد، وصراع في سبيل السلام والعدل والعلم والحب والسعادة. وهَرِمُ بن سِنَان، في مدائح زهير بن أبي سلمى –مثلاً- بطل، لأنه سعى بالصلح بين المتحاربين، وتحمَّلَ ديات القتلى، حتى وضعت الحرب أوزارها.
وأتصور أن بطولة هرم بن سنان، منفذ لتأمل دلالة البطولة في اتساعها، وتعدد آفاق فعلها وتنوع نماذجها. وهي نماذج تستلهمها المخيِّلة وتصنعها استجابة لأفق تلق لا يكف عن الانجذاب إليها والسرور بها والتفاعل معها. ويمتد ذلك الأفق ويتنوع بتنوع نماذج الأبطال تجاه ما يصطرعون معه؛ فمجنون ليلى نموذج لبطولة العشق، والصراع في سبيل الظفر بالمحبوبة. وشهر زاد نموذج لبطولة الأنثى التي قاتلت بالحكاية والسرد في سبيل الحياة، والسندباد بطل مغامرات السفر التي توسِّع مدلول الواقع وضيقه. والأساطير والملاحم والحكايات الشعبية والأشعار والآداب العالمية مليئة –هكذا- بالبطولة من حيث هي اختراع وتخليق خيالي، ومليئة بها من حيث هي تاريخ للبطولة ومدوَّنة إعجاب بنماذجها الواقعية. والعلماء والعشاق والمصلحون لا يختلفون عن ضحايا الظلم والاضطهاد في الاستحالة من الواقع إلى المثال، ومن الحقيقة إلى الحلُم، بحيث يغدو التمجيد مثل الرثاء دال البطولة فيهم.
لهذا كانت البطولة من دوال النبوغ والامتياز، وقد قرأت مقالاً بعنوان «ندرة البطولة» لعباس محمود العقاد، يرد فيه على مقال لأحمد أمين بالعنوان نفسه، في مجلة الرسالة، والكاتبان معاً يتداولان «البطولة» بدلالة النبوغ والامتياز. فالبطولة، عند أحمد أمين، ندُرَت في العصر الحديث؛ لأننا « لا نجد في الشعر أمثال بشار وأبي نواس وابن الرومي، ولا في النثر أمثال ابن المقفع والجاحظ وسهل بن هارون، ولا في السياسة أمثال عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز، ولا في الغناء أمثال اسحاق الموصلي وإبراهيم المهدي» ويرى أن «الجيل الحاضر في الأمم المختلفة لا يلد كثيراً من النوابغ ولا ينتج كثيراً من الأبطال، وأن طابع هذه العصور هو طابع المألوف والمعتاد، لا طابع النابغة والبطل». لكن العقاد يخالفه في هذه النظرة ويرى أن «عصرنا أغنى بالبطولة والنبوغ من كل عصر سلف بغير استثناء ولا تحفظ» ويرُدُّ الخطأ في عدم رؤية البطولة في عصرنا الحديث إلى طريقة المقارنة بين العصور التي لا تحصر الزمن ومزايا الشهرة وما تقوم عليه من عناصر، ملاحظاً أن البطولة لدى القدامى تقوم على مبالغات وأكاذيب عن العظماء والنوابغ.
ويبدو أن بين البطولة بدلالتها الحربية، على الفروسية والشجاعة، ودلالتها على الانتصار والغلبة، وعلى النفع الإنساني والإنقاذ والحماية، وعلى النبوغ والشهرة والامتياز، علاقة. وهي علاقة الغلبة والتفوق التي لا تقوم دون كفاح وصراع، وكلما كثرت ميادين الصراع وأشكالها كلما اشتدت الحاجة إلى الأبطال، وكلما كثر عددهم وتنوعت طاقاتهم وأشكال نبوغهم. فالرياضة صراع يستدعي البطولة، ونجوم الألعاب المختلفة أبطال يكللون بالمجد والكؤوس، وكثيراً ما نقرأ في عناوين الصحافة أو نسمع أو نشاهد في وسائل الإعلام صفة البطل في الدلالة على لاعب معين، فنسمع البطل محمد علي كلاي، أو بيليه، أو زيدان. ونقرأ عن أبطال كمال الجسم، أو أبطال الأولمبياد. والاختراعات العلمية والتقنية والاكتشافات المعرفية هي صراع من نوع آخر مع الجهل أو مع العجز والقصور، ولهذا فبطولة جلجامش أو أَخِيْل أو عنترة ليست شيئاً أمام بطولة توماس أديسون مخترع المصباح الكهربائي، أو الكسندر فلم نج مكتشف البنسلين، أو سابين مكتشف مصل شلل الأطفال، أو نيل آرمسترونج أول رائد فضاء وطئ على سطح القمر... إلخ.
وتمثيلات البطل ورمزياته تقوم في الثقافة الإنسانية من خلال مظاهر عديدة، وكلها تقوم على توظيف الصراع. فالألعاب الرياضية صراع رمزي للذات في مقابل خصم، ولهذا تبرز البطولة من حيث أداة الغلبة ووسيلة النصر، وكل فريق رياضي هو بطل من وجهة معينة هي وجهة جماعته وجمهوره، ولاعبوه هم أبطال يخوضون معركة اللعبة بما تحمله من رمزية تجاوز الوصول إلى هدف في مرمى الكرة، أو نهاية المضمار في سباق، أو دلالة الفوز التي تصبح مرادفاً لمعنى الانتصار. ولا تختلف عن ذلك في تمثيل البطولة والصراع والرمز عليهما، مظاهر الاحتفال الشعبي، التي تصحبها الرقصات والأهازيج والغناء. فغالباً ما تتم الرقصات الشعبية في تقابل بين صفين أو راقصين، وقد يحملان السلاح ويلوحان به، وقد يكون التقابل بين شاعرين أو مغنيين أو مجموعتين من الشعراء والمغنين، ومضمون الغناء والشعر يجري في مسافة التقابل بين الذات والآخر، مديحاً وفخراً في وجهة وهجاءً وتهويناً في وجهة أخرى. والشاعر بطل القبيلة، كفارسها في الموروث القبلي منذ القدم، والاحتفال بميلاد الشاعر الذي تحدَّث عنه ابن رشيق القيرواني قديماً لا يجتمع إلا مع الاحتفال بميلاد حِصَان، بما يعنيه تقارن الشاعر والفارس، والدلالة لهما معاً من الوجهة الشعبية تلك، هي دلالة الصراع والبطولة.
*إشارة:
كما هي سعادتي دوماً بما ينشأ عن ما أكتب في الثقافية الغراء، كان من أبرز ما سعدت به اتصال من الأستاذ محمد علي علوان، أحد آباء قصتنا الحديثة، والرجل الذي عرفته كبيراً، وما زال يكبر كما يليق بمن يصنعون المعاني الخلاّقة. وأنا أسجل هنا تقديري له بوصفه أحد أبرز الذين يضيئون أجمل المعاني في ضميري منذ زمن بعيد. وأرجو أن يجمعنا اللقاء بكم –إن شاء الله- مع عودة العام الدراسي القادم.
-
+
الرياض