دائما الذاكرة الشعبية تختزن في تضاعيفها جملة من الأدبيات النمطية التي يجري تداولها بشكل واسع، وكثير منها في واقع الأمر يؤسس وبآلية خفية لحالة من العماء الثقافي الذي يفترض ركل ملامحه إلى خارج دائرة التاريخ.
وكما هو معروف فالفرد بطبيعته وخصوصا في مستهل التكوين الطبَعي يتشرب وبتلقائية متكاملة ثقافة المحيط الذي هو أحد عناصره وتستحيل مفردات تلك المنظومة البيئية إلى أشياء بديهية يُسلم بها المرء دون محاكمة تمحيصية لمدى منطقيتها. إنها تظل خارج إطار الوعي فتتعالى على المراجعة والتدارك والتصحيح. الثقافة الشعبية تلتهم ملامح ذلك الوعي وتخنق روحه التطلعية وبالتالي تفقده القدرة على التفكير- حتى ولو مجرد تفكير- في إدانتها وتعريتها وتفكيك النسق المضمر، بل على العكس من ذلك وكمعادل موضوعي يبيت أحد الجنود المجندين لخدمتها وإعلاء مستوى رحابة تسلطها والتبشير بها وفى المقابل يبدي استبسالا فريدا من نوعه في مقاومة كل فكرة لا تسير معها في ذات الخط. المرء هنا يتكور (من الكرة) على ذاته يتمحور حولها تموت لديه ملكة التجاوز وتضمر لديه شهية التفرد لصالح النهم بالتقليد والنفور من كل ما هو خارج الاعتياد مما يفضي بالتالي إلى ضمور الملكة بفعل ذلك الاندغام التلقائي في نسيج الثقافة البيئية الضاغطة والخاضعة لأعراف وعوائد تقليدية يجري باستمرار إعادة إنتاجها وتوارثها على نحو يُعجز البنية العقلية عن القيام بوظائفها، ولن يتسنى لها ذلك إلا بتوفير آليات للجدل والحوار والنقد والنقد المضاد وتأمين أطر للتفاعل والتثاقف الذي يضاعف مستوى الشعور بالاستقلالية.
كثافة تلك السبل التي تُعرض البنية للذبول والانصياع للمعطيات الفكرية الناجمة عن البيئة وعدم مغادرة سربها ليس إلا اعتقالا للعقل وشحنا له بطاقة سالبة ولاغرو فعدم الانفتاح الواعي على المغاير يزيد من فرص الإصابة بالتأسن الداخلي ويفقد القدرة على اكتشاف أنحاء القصور في الثقافة الوظيفية لاطراحها والتخلص من سمومها.
عن سبيل المثاقفة والتفاعل المعرفي الخلاق تجري عملية المقارنة والتي تتيح الوقوف عن كثب على المواطن الوضاءة لتعزيزها والمحافظة على ما تحتويه من بريق أخاذ وفي المقابل تلمُّس العناصر المفتقرة للجاذبية للتخفف قدر الإمكان من أعبائها.
عندما يدير الفرد ظهره لما سوى ثقافته فإنه قطعاً سيدلف في عزلة ويحاصر ذاته بأسوار حديدية لا تفضي إلا إلى تحلله ووأد حيويته وتوهين وهجه ومصادرة العوامل الجوهرية والمعمقة لكفاءة حركة الأداء على نحو عام. الذات الانكماشية مغرمة بالسكون متيمة بالسائد تتعاطى معه بأقصى درجات الحفاوة والابتهاج ولذا فليس لديها أي قدرٍ من نزعةٍ نقدية للثقافة المتعينة ولا يمكن أن تطرح تساؤلات حول كفاءة الأدبيات المتداولة بل ثمة مباركة قبْلية لها، وتزكية مسبقة لمواضعاتها واستعداد تام للانتفاض والدفاع ضد كل ما من شأنه ضعضعة مكانتها أو تشريح أنساقها أو التشكيك في عوائدها العرفية. الذات المتكورة تتكور على نفسها لأنها لا تملك الذاكرة التي تؤهلها للإفلات من قبضة الأنماط المفاهيمية المباينة لما تقتضيه حقيقة المعرفة، ولا تملك ما يرشحها على مبارحة الوضعيات اللا موضوعية إنها لا تفلح إلا في تكرار ذاتها عبر اجترار الأفكار والعمل على إعادة الإنتاج المُمل بين الفينة والأخرى على نحو يوصد آفاق الانطلاق ويعيق الخروج من كهف الوثوق المتناهي العمَه والذي هو المنبع الأساس لهذا اللون من الانطفاء التام.
وحاصل القول: إن التعاطي بشكل تقديسي مع لون ثقافي واحد تحت ذريعة أنه هو ما تمّ تشربه منذ نعومة الأظفار وتهميش الألوان الثقافية الأخرى وعدم التعرف على جملة من محاورها وشطبها تماما من الوعي لا ينتج إلا بواعث لتنامي حالة اجترارية، ولونا من الذهنيات المترهلة والتي ليس بمقدورها اتخاذ القرارات المنطقية المتزنة وبالتالي فهي مضطرة للعيش خارج العصر وبعيدا عن روحه وذلك بفعل تجافيها عن منطق الصيرورة الكونية لصالح الانحباس في منطق الكينونة المتكورة على أناها البالغة المحدودية.
-
+
Abdalla_2015@hotmail.com
- بريدة