أشرنا في مساق سالف إلى أن (النقد الثقافي) لا يعني ذلك النهج الأخرق من الهدم باسم النقد والتنوير؛ فذلك ليس فكرًا ولا نقدًا، وإنما هو مرضٌ نفسيّ وحضاريّ، يدمّر كلّ بارقة أمل، ويؤدّي إلى مزيدٍ من الانحطاط والتبعيّة والعبوديّة. وهو يستهدف -قصدًا أو جهلاً- قَطْعَ الصلة بين الأجيال وتراثها وتاريخها، كي لا تستشعر قيمةً ولا انتماءً ولا اعتزازًا. وتلك نافذة الاستخذاء للآخر، والاستنامة له، وإمطاء الظهور لرِكَابه، والتخلّي عن مبادئ المقاومة للغازي وحماية الأوطان. إنّ ذلك الضرب من النقد لا يعدو عَمَالةً مبطّنة لاستلاب الإرادة، واستعمار الفكر، وتغريب الثقافة، كما كانت عمالاتُ الأمس سُبُلاً لاستعمار الأوطان، واستعباد الشعوب، وتبديل اللغات، ومسخ الثقافات القوميّة، وتذويب الهويّات الوطنيّة. وإذا كان الحِلْف الأزليّ الأبديّ بين السياسة والدِّين قد وقف كثيرًا بالمرصاد دون حركات الفكر والإبداع عبر التاريخ، فكان بمثابة «الشاطر والمشطور» وبينهما الشعب (أو الكامخ!)، فإن تلك الشرذمة من المثقّفين المحدثين، الناقمين على أنفسهم وتاريخهم، الفاغرين في مواجهة إنجازات الآخر، إنما يؤدّون دورًا مقابِلاً في الإجهاز على أيّ أملٍ تَبَقَّى في النهوض، وتقويض أيّ بناءٍ أَفْلَتَ من براثن الماضي، وذلك بتراميهم في أحضان الآخر، ودعوة ذويهم إلى الترامي معهم، بكلّ ما أوتوا من بلاهةٍ وجهلٍ وصَغار! وكأنّما هؤلاء يمهِّدون الطريق لما بشّر به (صموئيل بي هانتنجتون) من «صِدام الحضارات»، مشيرًا إلى أن المَصْدَر المحوريّ للصراع سيكون ثقافيًّا، وسوف تختفي حضاراتٌ وتُدفن تحت رمال الزمن، كما يَحدث عادةً عبر التاريخ. إلاّ أن الصِّدام لا يعني حدوث عنفٍ بالضرورة، ولكن يمكن القول -بناءً على قوله- إن حضارةً قويّةً ستمتصّ أخرى ضعيفةً، طواعيةً(1).
وكمنهاجي في هذه المساقات، أُحبّ أن أَخرج بالقارئ عن تقليديّة الطرح والتلقّي، مفيدًا من التقنية التفاعليّة الحديثة. فممّا يمثّل شاهدًا على ما أشير إليه في مقدّمة هذا المقال - وعلى ذلك المشروع الواسع لبثّ الكراهية للذات والمجتمع، والتبرُّؤ من كلّ ما يمتّ للثقافة العربيّة والإسلاميّة بِصِلَةٍ، والدعوة إلى الاندماج التامّ في الثقافة الغربيّة، وإظهارها بمظهر (البهاء المطلق) في مقابل (التخلّف المطبق)- «فيلمٌ» أطلعتْني عليه الدكتور لطيفة حليم، الأستاذة بجامعة محمّد الخامس بالمغرب، هو في ظاهره عن تيّار «الإخوان المسلمين»، غير أنه يتّخذ هذا المنبر السياسيّ المُغرِض ليُدين من ورائه الثقافة الإسلاميّة في تفاصيلها القيميّة. ويحوي الفيلمُ برنامجًا وثائقيًّا بُثّ على التلفاز النرويجي، في نوفمبر 2010(2). ليُبرز رسالةً مفادها: أن الإسلام بات تهديدًا للعالم الغربيّ وقِيَمه وطرائقه في الحياة، وأنه يُخطّط للسيطرة على العالم واستعباده! وأن على الغرب أن يستيقظ- بفعل ذلك الفيلم!- لا لإنقاذ نفسه من هذا الغزو الخارجيّ فحسب، ولكن أيضًا لشنّ غزوٍ استباقيّ مضادٍّ للعالم الإسلامي؛ لتغييره قيميًّا من الداخل، قبل فوات الأوان، ودمغه بدمغته هو، أي بالدمغة الأوربيّة.. فهناك -كما يبدو من الفيلم- تقصيرٌ غربيٌّ في هذا الجانب، أو بمعنى آخر: انتكاسة لمشروعه التغريبيّ، نَجَمَتْ عنها عودةُ المرأة العربيّة -المِصْريّة تحديدًا- في العقود الأخيرة إلى احتشامها في اللباس، بل إلى الحجاب، وربما النقاب. وذلك تراجعٌ فظيعٌ عمّا كان منشودًا لتشكيل هويّة هذه المجتمعات وشخصيّتها، لفصلها عن مكوّناتها الثقافيّة الخاصّة. وأنّ على كلّ غربيّ المسارعة إلى مشاهدة هذا الفيلم المدهش؛ ذلك أن الحكومات الغربيّة نائمةٌ عمّا يَحدث؛ معتمدةً على النفط العربيّ، الذي سيحرقها؛ والمجتمع الغربيّ -حسب الفيلم- في حربٍ باردةٍ مع الإسلام؛ ولذلك فإن مصلحة أطفاله تقتضي إيقاف المدّ الإسلاميّ، قبل أن يأتي يوم تُرجم فيه حفيداته بالحجارة! وواضح أن الفيلم يحمل خطابًا مؤدلجًا مؤجِّجًا، غير متوازن، وهو يتبنَّى وجهة نظرٍ عربيّة واحدة، مناوئة للفكر الدينيّ على طول الخط، إلاّ ما وافق منه هواها، ضائقة بمظاهر المتديّنين جملةً وتفصيلاً، من حجابٍ وغير حجاب. وعليه، فهو يتوخَّى بَثَّ وجهة نظرٍ تقليديّة، سائدة، ومعلّبة الانحياز، تهدف إلى ترهيب العالم، وتأكيد ميسمَّى «الرُّهاب من الإسلام»، وتشويه الصورة بصورة نمطيّة، تَغرس فكرة التآمر على الآخر، والخطورةِ الداهمة من المسلمين على الغرب والشرق. بل يتوخّى إلى هذا توظيف تلك الصورة لضرب شعوب المنطقة، والحيلولة دون أيّ تغيير أو تقدّم أو حريّة، تحت فزّاعة الإسلاميّين، إخوانًا وغير إخوان. ولذلك فليس غريبًا أن يحتفي خطابٌ كهذا بأَعلامٍ منتقَين جدًّا، لهم مواقفهم المشهورة من الدِّين والمتديّنين، توجّهاتهم معروفة سَلَفًا، مركِّزًا على وُجهة رأيٍ تُعجب معدِّي الفيلم وتخدم أغراضَهم، التي صُنع الفيلم أساسًا من أجلها، لتعزيز الكراهية الشعبيّة والخوف من العرب والمسلمين، دون أن يُصغي إلى أصحاب القضيّة الذين يتحدَّث عنهم؛ فهو حتى حينما يأتي ببعضهم، إنما ينتخب منهم ما يُشبع رغبته في ما يُشنِّع به عليهم، ويقتطع منهم ما يؤيِّد به فكرته المسبقة ورسالته التي يريد توجيهها. وحتى إن المرأة لا تتحدَّث هنا إلاّ من خلال أصوات الذكور، أو صوت المرأة التي تُدين المرأة المختلفة عنها، المتديّنة أو المحجّبة، كي تقول ما يُراد أن يُقال (بالضبط)!
وهكذا، فمن الواضح أن الفيلم لا يعدو نموذجًا لتقديم رسالة مبيّتة، لإدانة طرفٍ بأصوات خصومه! وبذا يأتي طرحًا غيرَ نزيهٍ أصلاً، وغيرَ موضوعيٍّ، ولا عادلٍ، بل مكرَّسًا ليخدم تيّارًا معيّنًا ضدّ آخر. ولذا، فحتى من وُجهة نظرٍ إعلاميَّة حُرَّة واحترافيَّة محايدة، لا يُظهر مثل هذا العمل قابليَّتَه لتقديم مادّةٍ تستحقّ الاحتفاء بجدِّيَّتها وحُرِّيَّتها في استهداف الحق والحقيقة في هذا السياق.
إن المُجْرِم -وإنْ كان في قفص الاتِّهام- تكفل لها شرائع السماء والأرض الدفاع عن نفسه أو توكيل محامٍ! وهذا ما لم يتوافر في هذا الفيلم (النموذج). ومع ذلك، فلقد يبدو الغرب أحيانًا -بل كثيرًا- أكثر إنصافًا وعقلاً وعدلاً مع العرب والمسلمين من أبناء العرب والمسلمين أنفسهم، وإن تَحدَّثوا بالفرنسيّة أو الإنجليزيّة! وهو ما يستغلّه الغرب عند الحاجة -كما في ذلك الفيلم- لضرب بعضنا ببعض.
وعلى الرغم من ذلك النوع من الضخّ الإعلاميّ بهدف غسيل الأدمغة، لتغييب انتماء المرأة، وتنحية تاريخ الشعب، وثقافته، وهويَّته، تفجّرت ثورة الشباب في مِصْر، بعد بثّ الفيلم بأشهر، وكانت الفتاة (المتحجِّبة) أسماء محفوظ نبراسَ حركة الاحتجاج والدعوة إلى التغيير، المنطلقة في 25 يناير 2011! وتلك المفارقة يمكن أن تُقرأ على أنها تحقُّق نبوءة الفيلم، كما يمكن أن تُقرأ على أنها نسفٌ لتلك النبوءة! إلاّ أن الأحداث، ومهما يكن من أفلام وأحلام، تُثبت دائمًا أنه لا يصحّ إلاّ الصحيح، ولا يمكث في الأرض إلاّ شجر الأرض الأصيل.
على أن الغرب، وباختصار، قد اكتشف أخيرًا أن «الديمقراطيَّة» -التي كان يباهي بها ويبشِّر، ساعيًا إلى فرضها أحيانًا- غيرُ صالحةٍ لكلِّ مكانٍ وزمانٍ، وإنْ صلُحت، فهي غير صالحةٍ على المدَى القريب أو البعيد؛ لأنها ستعزّز القوى المناهضة له، ولسياساته، إنْ في الشرق أو في الغرب. ولهذا فهو مضطرٌّ إلى التراجع عنها، بل إلى الحيلولة دونها ما أمكن، أو توظيفها لمصلحته ما استطاع. ذلك أن الصراع القادم- كما يذهب إلى ذلك (هانتنجتون)، في إجابته عن السؤال: لماذا سيقع الصدام بين الحضارات؟- سيكون ضاريًا، ومن أسباب نشوبه فكرةُ الديمقراطيَّة نفسها، التي استفادت منها أطراف لا يُراد لها أن تفعل، ولاسيما (التيارات الإسلامويَّة)(3). والذاكرة الغربيَّة لا تنسى -كما نفعل نحن- تاريخَ الصراع بين الإسلام والغرب، منذ مطلع الإسلام حينما بدأ المدُّ العربيُّ والإسلاميُّ غربًا وشمالاً، فيما حاول الصليبيُّون خلال القرون من الحادي عشر إلى الثالث عشر إقامةَ حُكْمٍ صليبيٍّ مضادٍّ واحتلال القُدس، قبل أن يحرّره المسلمون، ثم يقلب الأتراكُ العثمانيُّون على الغرب الطاولة خلال القرون من الرابع عشر إلى التاسع عشر، باسطين سلطانهم إلى البلقان ضاربين حصارهم على (فِيَنّا). ومن ثَمَّ جاءت، خلال القرن التاسع عشر وبدايات العشرين، حركاتُ الاستعمار الثلاثيّ «الثأريّة»، البريطانيَّة والإيطاليَّة والفرنسيَّة، التي فتكتْ ببلدان الشرق الأوسط وإفريقيا(4). ولأجل ذلك كلّه لا يمكن أن يسمح الغربُ بسيادة ديمقراطيَّةٍ حقيقيَّةٍ، لا في الغرب ولا في الشرق الأوسط، ما تصادمتْ مع المصالح الاستراتيجيَّة الغربيَّة، وما تناقضتْ مع مساعيه للهيمنة المادّيّة والأيديولوجيَّة، ومع غاياته في تشكيل العصر والمجتمعات وَفْقَ مزاجه، ودمغها وَفْقَ شخصيَّته؛ بما يوفِّر له الأمن والاستقرار من جهةٍ، وما يحقّق له من جهةٍ أخرى استغلالَ خيرات الشعوب. إنه (الاستعمار البارد المعاصر)، أو (الاستعمار الناعم)، القائم على تذويب الهويَّات القوميَّة، واستعباد المنتمين إليها (سابقًا!)، طواعيةً، كي يَدخلوا في عبوديّة الغرب كافَّةً، ويَكُفُّوا عن اتِّباع خُطوات الشيطان!
p.alfaify@yahoo.com
http://khayma.com/faify
(1) انظر: (1995)، الإسلام والغرب آفاق الصِّدام، تر. مجدي شرشر (القاهرة: مكتبة مدبولي)، 5، 10، 12.
(2) كان الفيلم حين كتبتُ هذا التحليل على الرابط: http://www.vimeo.com/18014677 ، ولأمرٍ ما حُذف! فحين تفتح الرابط الآن ستأتيك رسالة بأن فيلم «الإخوان المسلمين» قد حُذف يوم الخميس 3 مارس 2011. وربما كانت لذلك علاقة بتطوّر الأحداث المشار إليها في مِصْر.
(3) في مثل هذا السياق الاصطلاحيّ، كثيرًا ما نجد استعمال «التيّار الإسلامي»، وكذا وَرَدَ في ترجمة الكتاب! مع أن الجميع مسلمون، أو إسلاميّون، على الغالب، وإنما المقصود هنا «الإسلام السياسيّ»، وإنْ كان الإسلام أيضًا لا ينفصل عن السياسة، ولم يَحدث ذلك قط منذ أن ظَهَر! بل أصبحنا نجد لدينا اليوم في السعوديّة من يستعمل مصطلح «التيّار الدِّيني»! كأن التيارات الأخرى «تيّارات لا دينيّة»! وهذه الفواصل لا علاقة لها واقعيًّا بثقافتنا ولا بمجتمعاتنا، بل هي مستوردة بمفاهيمها ومصطلحاتها من مجتمعات أصبح الدِّين لديها في وادٍ والدنيا في واد. ولربما راود الحُلم بعض مستعملي هذه التعبيرات أن يحدث ذلك لدينا. ولكن حتى يَحدث ذلك، تظلّ تلك الاستعمالات محض مغالطاتٍ أو مزالق مفاهيميّة مصطلحيّة.
(4) انظر: هانتنجتون، م.ن، 24- 00.
(4) تنويه: في المساق السابق المنشور بعنوان «سؤال التراث» فوجئتُ بتعديل العبارة الآتية: «وما يكتنف زائريها من صعوباتٍ»- كما كُتبت في أصل المقال- إلى: «وما يكتنف زائروها من صعوباتٍ»، وكذا تعديل عبارة «حوالَى كيلين» إلى: «حوالَي...»، (بالياء).
-
+
الرياض