في فجر يوم الخميس التاسع من جمادى الآخرة سنة 1432هـ (الموافق 12 من آيار سنة 2011م) توفي أخي، وحبيبي، وصديقي، وأستاذي الإمام العلامة الشيخ عبدالرحمن بن محمد توفي الباني عن عمر جاوز السابعة والتسعين، فقد ولد سنة 1335هـ (1917م)، وتوفي سنة 1432هـ ((2011م). قضاها كلها في طاعة الله ورسوله، ونشر دعوة الإسلام، والدفاع عنه.
وقد أوتي شخصية مستقلة، وموهبة فذة في الذكاء والقدرة على استيعاب ما يقرأ وعرضه، والفكر النير، والنظرة الصافية النقية، والدأب المستمر في تحصيل العلم والدعوة إلى الله، والإصرار على سلوك طريق الحق مهما كانت العوائق والعقبات، والرغبة في خدمة الناس ومعونتهم.
ولد الشيخ في أسرة كريمة متدينة من كرام أسر دمشق، وفي بيئة محافظة متمسكة بالدين ملتزمة لأحكامه، وكانت تقوم بينها وبين الأسر العلمية الدمشقية روابط من القرابة والصلة والتعاون.. هذه الأسر التي ظهر منها علماء كبار من أمثال العلماء من: دار الكزبري، والعلماء من دار الخطيب، ومن أمثال الشيخ بدر الحسني المحدّث الكبر في بلاد الشمال وفي عصره.
وكانت دمشق معقل الدين تزخر بالعلماء الفحول، ولم يكن فيها مكان لدعاة الشر.. بل كل ما فيها قائم على الدين... في هذا الجوّ الإسلامي الكريم نشأ فقيدنا - رحمه الله رحمة واسعة وأحسن إليه - وتعلم في مدارس بلده إلى نهاية المرحلة الثانوية، ونال شهادة البكالوريا الثانية (قسم الفلسفة).
ودرس في دار المعلمين، وكان الأول في مراحل دراسته كلها، وقد اطلعت على بحث قيم له مكتبه عن ابن خلدون وهو في هذه المرحلة الدراسية التي نتحدث عنها.
شهد وهو فتى سقوط الخلافة الإسلامية، وهو أعظم مصاب حل بالمسلمين - واأسفاه - فقد استطاع اليهود والنصارى أن يعملوا على إسقاط هذه الخلافة التي استمرت خلال القرون الماضية، وإنا الله وإنا إليه راجعون.
وشهد كذلك احتلال الفرنسيين بلاد الشام بالحديد والنار، وتنكيلهم بالثوار، وبالناس الآمنين في بيوتهم.. ثم شهد العهود التي تلت.
وقام في تلك الحقبة بعض المثقفين من الشباب المتدين بإنشاء جلسة يتدارسون فيها الواقع وكيفية إصلاحه، وكانوا يلتقون في جبل قاسيون وكان منهم الأساتذة بشير الباني وعبدالهادي الباني، وعبدالرحمن الباني، ومعروف الدواليبي، والشيخ عبدالمحسن الرؤون الأسطواني.... وغيرهم كانوا يلتقون في جبل قاسيون، ويتباحثون في كيفية العمل للإسلام وتثبيت أركانه وأحكامه في قلوب الناشئة «ذلك لأن فرنسا وضعت مناهج التعليم في مدارس البلاد على ثقافة علمانية غريبة عنا.. فجعلت المناهج مصبوغة بصبغة علمانية بعيدة عن الروح الدينية، وجعلت اللغة الفرنسية تدرس في المرحلة الابتدائية، وتاريخ فرنسا ولاسيما الثورة الفرنسية يدرس بتوسع في المرحلتين المتوسطة والثانوية.... وجعلت مادة الديانة مادة هامشية لا مناهج لها ولا كتب ولا تدخل في امتحانات الشهادات.. وجعلت في تلك المناهج دراسة الحركات الفكرية التي قامت في تاريخنا.. فكان الطلاب يدرسون الاعتزال بتوسع والفلسفة اليونانية وأئمة الفلسفة الذين ظهروا في العصر العباسي كابن سينا والفارابي وأمثالهما... وحركة الخوارج.. والمرجئة... والتصوف وما إلى ذلك من الاتجاهات. يدرس الطلاب هذه الحركات التي فيها انحراف ولا يدرسون الإسلام والنظام الاجتماعي التعاوني فيه، ولا النظام الاقتصادي فيه، ولا النظام الروحي.. فكان لذلك كله أثر في تكوين فكر أبناء الأمة وبناتها.
كانت تلك النخبة في جبل قاسيون تفكر في إصلاح التعليم، وإصلاح الأوضاع العامة في الأمة، وكان عبدالرحمن الباني يفكر معهم.. وقرر من ذلك الوقت أن يعمل على إصلاح ذلك كله.. وقرر أن تكون حياته في خدمة التربية الإسلامية.. ولما أسندت إليه وظيفة مفتش التربية الإسلامية في سورية قام بتحقيق الكثير مما كان يتطلع إليه، ولقد نجح هذا الرجل العظيم في ذلك أعظم نجاح.
فلقد قام مع عدد من كبار علماء الدين، وعدد من المفكرين في مطالبة المسؤولين بإدخال مادة التربية الإسلامية في امتحان الشهادات واستطاع تحقيق ذلك.
ثم وضع مع عدد من مدرسي هذه المادة المناهج المحكمة التي تعنى بدراسة النظام الاقتصادي في الإسلام، والنظام الاجتماعي، وما إلى ذلك.. ثم شارك في تأليف الكتب وفق هذه المناهج، وكان يأبى أن يضع اسمه في عداد المؤلفين، وكانت هذه الكتب هادية إلى الحق والالتزام بالإسلام، والاقتناع بصلاحيته، وأفضليته، وقد سمعت الأستاذ علي الطنطاوي يثني عليها الثناء الكبير.
واختار الأستاذ الباني - بصفته الرسمية - المدرسين الأكفاء، فاجتمع لهذه المادة المنهج الصالح، والكتاب الصالح، والمدرس الصالح.
وانتفع الدارسون بذلك وتركت هذه الدراسة الأثر الكبير في نفوسهم وظهر هذا الأثر في انتخابات النقابات في عهد دستوري، فكان معظم الناجحين في هذه النقابات من ذوي الاتجاه الإسلامي.
فكان معظم الناجحين في نقابة المهندسين من الإسلاميين
وكان معظم الناجحين في نقابة الأطباء كذلك من الإسلاميين
وكان معظم الناجين في نقابة المعلمين من الإسلاميين
وهكذا... حدث انقلاب فكري هادئ قام به هذا الإنسان المجاهد.
كانت الحكومة السعودية تعرض عليه العمل في بلادها فكان يعتذر لأنه يقوم بعمل عظيم في وزارة التربية، فلما أبعد عن عمله، وطلبته حكومة المملكة استجاب لذلك وعمل في اللجنة الفرعية لوضع المناهج التي كان يرأسها الشيخ حسن آل الشيخ، وكان ينوب عنه دائماً الشيخ ناصر الحمد الراشد رحمهما الله، وكان له جهد في وضع سياسة التعليم التي قال عنها المودودي يوم أن رآها: إن هذه السياسة ثروة للمملكة تفوق الثروة النفطية التي أكرمها الله بها. وكان له دور كبير في إيجاد مادة التربية الإسلامية في جامعة الإمام محمد ابن سعود الإسلامية.
كانت لديه اقتراحات نافعة يقدمها لمن يتوسم فيه القدرة على الكتابة فيها، فقد طلب من شيخه العلامة الشيخ ناصر الألباني أن يكتب في آداب الزفاف، وإحكام الجنائز، وفي حجاب المرأة، فكتب في ذلك واقترح على العلامة الشيخ محمد أبو زهرة عندما اجتمع به في بيتي في زيارته لدمشق أن يكتب كتاباً في أصول التفكير الإسلامي.
وكان الفقيد يملك أسلوباً جزلاً في الكتابة، وكان خطه جميلاً جداً.
له بحوث كثيرة في موضوعات تربوية وإسلامية نافعة وهي موجودة ضمن جزازات، كان يطلعني عليها.
وكان نصيراً للغة العربية متحمساً أشد الحماسة للتعليم بها في المستوى الجامعي في الكليات العلمية، وعنده في هذا الموضوع ملف كبير غنيّ.
وهناك فوائد كثيرة في تعليقاته على كتبه التي يقرأها، وأذكر هنا بصورة خاصة تعليقاته على الكتاب العظيم (الأعلام) الذي كان يجلّه ولا يكاد يفارقه، ففيه استدراكات وزيادات نفيسة، وكذلك الأمر في الكتب المتعلقة بالتراجم. هذا ومكتبته غنية بكتب التراجم وبالكتب الإسلامية الحديثة، وبالكتب المتعلقة بالتربية والفلسفة وعلم النفس.
اشتركت معه في مراجعة الموسوعة العربية العالمية مع طائفة من الدكاترة، وكنا نلتقي حوالي ثلاث سنوات حتى أتممنا مراجعتها، وكان الأستاذ عبدالرحمن دقيقاً في المراجعة من حيث المضمون والأسلوب.
ومن آثاره القيمة تلك المقدمة المهمة لرسالة (العبودية) لابن تيمية التي لا تقل في أهميتها عن الرسالة نفسها.
وسبق أن ذكرت البحث الذي كتبه في وقت مبكر عن ابن خلدون.
وكذلك له بحث عن الحوار.
وكتب مقدمات لعدد من الكتب طلب مؤلفوها منه أن يكتب لهم مقدمات فاستجاب وفعل.
ومن آثاره المطبوعة (مدخل إلى التربية في ضوء الإسلام) و(الفلم القرآني).
ومن آثاره المخطوطة:
(الدين والتربية، وأسس التربية الدينية).
(فكرة وحدة الوجود عند ابن عربي).
(فن التراجم وحاجة الأمة إليه).
وله مقالات عدة منشورة.
كان - رحمه الله - عفّ اللسان، فلم يكن يذكر أحداً بسوء، وكان - غفر الله له - كريماً في بيته يبالغ في إكرام الضيف، ويقدم إليه ما عنده.
وكان حريصاً على مساعدة الآخرين بالمال سخياً في حدود طاقته فما أكثر ما رأيته يتبرع ويجمع لبعض المستحقين.
وكان حريصاً على نصح الآخرين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باللطف والحكمة.
وكان يريد من الباحثين أن تكون بحوثهم مستكملة لعناصر الجودة فإذا سمع أن طالب علم يبحث في موضوع من الموضوعات، كتب له توجيهات ثم كتب قائمة بالمراجع، وقد يعيره هذه المراجع من مكتبته.
وقد أكرمه الله تعالى بأن حفظ عليه صحته وقوته وبصره، فلم يستعمل عكازاً، ولم يكن يلحظ الإنسان عليه أمارات الشيخوخة، ظل إلى آخر عمره محتفظاً بذاكرته وفكره وعلمه، ولم يقعده المرض في الفراش إلا أياماً معدودة، وكان يصعد الدرج، ويذهب إلى الصلوات الخمس على رجليه، وما كان يظهر عليه إلا ضعف السمع. لقد حفظ الله عليه صحته، وملكاته، وأجهزته لأنه حفظها من المعاصي في كل مراحل عمره.
ابتعث إلى مصر للدراسة في الأزهر من قبل وزارة المعارف السورية فنال شهادة كلية أصول الدين، والإجازة في الدعوة والإرشاد من الأزهر، وشهادة الفلسفة من كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول، وإجازة التدريس من المعهد العالي للمعلمين في القاهرة.
وتعرّف على علماء مصر ومنهم الشيخ محمد الأودن الذي كان يكبره ويثني عليه كثيراً، ومنهم الأستاذ محب الدين الخطيب.
وتعاون في المجال العلمي والدعوي مع عدد كبير من الشباب منهم الأستاذ محمود نفيس حمدي، والأستاذ الدكتور رشاد سالم، والأستاذ عبدالمعز عبدالستار والأستاذ عبدالحكيم عابدين، وعزالدين إبراهيم، وغيرهم، والأستاذ عبدالحليم محمد أبوشقة وتزوج أخته وجاء بها إلى الشام.
فقضى في رحلته الدراسية هذه سبع سنين، وعاد إلى الشام عام 1951م.
أما علاقتي به فتمتد ستين سنة ما ترك أحدنا الآخر، وكنت جاره في السكنى، وكنا نزور معاً العلماء الكبار الذين يزورون دمشق، فقد زرنا أبا الحسن الندوي، والأستاذ أحمد محمد شاكر، والدكتور تقي الدين الهلالي وغيرهم.
واستمرت هذه الصلة وتوثقت عندما جاء إلى المملكة العربية السعودية بعدي فاستقبلته واستأنفنا اللقاءات.
وكان زميلي في كلية التربية سنوات.
ثم كان زميلي في وزارة المعارف، حيث عملت أنا وهو مستشارين في مكتب الوزير وكنت معه في جلسة أسبوعية لتدارس القرآن حتى ما قبل وفاته بأسبوعين.
كان رحمه الله ورعاً غاية الورع... فلا يستعمل أوراق الدولة إلا فيما يتعلق في أمور الدولة، ولم يكن يملأ قلمه من حبر الوزارة، بل كان يشتري دواة ويملأ منها قلمه.
ولم يكن يلبي دعوة أحد من موظفي الوزارة.
وكان حريصاً على التوجيه في كل مجتمع من المجتمعات التي تكون.
وأقدم التعزية الخالصة إلى العلماء في العالم الإسلامي، وإلى أحبابه من الدعاة إلى الله، وإلى والديه الكريمين المهندس أسامة، والأستاذ محمد، وإلى بناته الدكتورات: داعية، وخديجة، وأسماء، وسمية، وسلمى. العالمات الصالحات وإلى أزواجهن وإلى أحفاده... جزى الله كل من كان في خدمته ورعايته منهن، ومن غيرهن.
غفر الله لنا وله، وجمعنا به في مستقر رحمته في الجنة.
و(إنا لله وإنا إليه راجعون).. والحمد لله رب العالمين.
-
+
- الرياض