لاشك أن المشهد الثقافي بعد الانتخابات الأدبية ليس كما كان قبل الانتخابات الأدبية، والوعي الثقافي بعد الانتخابات الأدبية ليس كما كان قبل الانتخابات الأدبية،وضبط أطر هذا التحول بقيمه الإضافية أو المطروحة من حسبة المكتسب العام للحاصل لن يتضح على المدى القريب، لكن هذا لا يعني أن التحول قيد التنفيذ وتأثيره بدأ يتحكم في إعادة صياغة المفاهيم والأحكام الفكرية بصور اعتبارية لا يمكننا تجاوزه أو تجاهله أو الاستهانة في قراءة هوامشه أو إغفال تقديره اللازم كإحالة ضرورية تكشف عن الكيفية المستحدثة التي تنوجد من خلالها أو عليها الأشياء أو تختفي، على أساس أن كلا من الوجود والاختفاء هي» لعبة مسبِبة» حاصل علاقة نوعية بين الأشياء والأحداث.
وأول تلك التحولات هو «إسقاط النظام الثقافي»، وما نتج عن ذلك الإسقاط من أزمة مفهوم الثقافة وحقوق المثقفين ودورهم في التطوير الفكري،والتي دفعت «فقهاء الأدب» عندنا للاجتهاد في إصدار «فتوى أدبية» تُفرق ما بين الأديب والمثقف في حين أنهما قبل الانتخابات كان يتقاسمان حق التعايش ؛ لغرض تشريع الاستحقاق القانوني لمن يحق له دخول الانتخابات الأدبية.
ليجد المثقفون أنفسهم أمام مؤامرة تعمدت إسقاط النظام الثقافي وإقصاء المثقفين عن مركز رسمنة صناعة القرار الفكري، وبروز ظاهرة «المتحولين»، أي من تحول من «هويته الثقافية» إلى «الهوية الأدبية» لكسب لعبة الانتخابات، مما أضر بتوازن النظام الثقافي.
وحتى الآن الكثير منّا نحن المثقفون لا نعلم الهدف الحقيقي من إسقاط «النظام الثقافي» وخاصة في غياب «استحقاق قانوني»يمنحنا «شرعية النظام الذي ننتمي إليه» أسوة بمعاشر الأدباء..!
كما أن تلك «الفتوى الأدبية» كشفت بالإضافة إلى أزمة المفهوم ما بين الأديب والمثقف، أزمة «الصراع بين الأدباء والمثقفين» في المجتمع سواء على مستوى استحقاق التحكم في صناعة القرار الفكري للمجتمع أو على مستوى التأثير على العقل الجمعي.
لتظهر على الملأ ثنائية تمثل نوعية ذلك الصراع وهي :»كيف يحكم من لا يُؤثر» و»كيف لا يحكم من يؤثر».؟!.
وقد يرى البعض أن تلك الثنائية قد توجِد معطى معقولا لتحقيق توازن القوى بين المثقفين والأدباء في المجتمع- وهي قوى ظلت أحادية القطب تستأثر بها فئة دون أخرى-؛ من خلال تقاسم السلطة التشريعية الثقافية وسلطة التنفيذ الثقافي مناصفة بين فئتين ينقسم المشهد الثقافي بينهما.
فالأدباء وفق الاستحقاق المعطى لهم من الانتخابات يملكون سلطة التشريع الثقافي والمثقفون أيضا وفق المعطى المنتزع منهم من قبل الانتخابات يملكون سلطة التنفيذ الثقافي.
والتفكير بهذا الشكل يعني «ثورة على النظام الثقافي» و»إسقاطه» باعتبار أن «من لا يحكم لا يؤثر» لمصلحة « إظهار النظام الأدبي» باعتبار أن «من يحكم يؤثر».
وهذا منشأ الصراع بين المثقفين والأدباء الذي أفرزته الانتخابات الأدبية ،بين نظام ثقافي متكامل يؤثر ولا يحكم واستحقاق لا يملك نظاما يحكم ولا يؤثر.
كما كان منشأ انتقام من فئة اُستبعدت طويلا من استحقاق»من يحكم يؤثر» لتمارس دور الإقصاء على فئة ظلت تستأثر بالسلطة من خلال حجزها في دائرة «من لا يحكم لا يؤثر».
وسقوط النظام الثقافي نتيجة الانتخابات الأدبية أوجد نظاما بديلا وهو «النظام الأدبي»و لا أستطيع الآن أن أقول يمكن اعتباره نظاما بصيغة منهجية يُصاحب «عقلا أدبيا» أو أن المراهنة كانت صحيحة منذ البدء في إسقاط «نظام معلوم» من أجل خلق «نظام مجهول» فهل هذا ما كان يٌقصد به من الانتخابات الأدبية إسقاط «النظام الثقافي» وإبعاده عن صناعة التنوير الفكري لِم له من تأثير على صناعة العقل الجمعي؟.
مقابل إتاحة الفرصة لمن لا يملك أي مشروع تنويري أن يتسلط على مركز صناعة القرار الفكري بحجة أنه أديب؟!
أقول ذلك بعد تأمل طويل في نوعية من استطاع الوصول إلى عضوية مجالس الأندية الأدبية فأغلبهم لم يُعرف عنه تبنيه لأي مشروع إصلاحي ثقافي، فكيف سيقود المرحلة الجديدة التي ستنتجها مرحلة الانتخابات،أم أننا سنجد المرحلة الجديدة بعد الانتخابات أشبه بخمور قديمة في قوارير جديدة.
وهو ما يجعلني مبدئيا أن أقول إن مراهنة الانتخابات على «العقل الأدبي» التي دفعها إلى «إسقاط النظام الثقافي» مراهنة خاسرة سلبياتها أكثر من إيجابياتها؛ لأن العقل الأدبي عندنا غير شعبي وغير مهيأ للتأثير على الفكر الجمعي كما أنه لا يملك هوية فكرية مضبوطة تُشجع الجمهور على تصديقه والالتصاق به، إضافة إلى أن العقل الأدبي لا يملك نظاما أدبيا ذات خبرة فكرية مثل العقل الثقافي بنظامه وخبرته الثقافيتين.
وقد يرى البعض أن هذه نتيجة الديمقراطية الثقافية التي يجب أن يرضى بها الجميع، باعتبار أن كل نظام له معطياته ومقتضياته التي يُحصل به منطق تصوراته ويدعم وحدة الفعل الذي يرتب تمثيلات متنوعة تحت تمثيل مشترك.
وهذا قول فيه نظر ومراجعة لا على مستوى المبدأ إنما على مستوى نوع الحاصل بتأثير العامل؛ لأن الديمقراطية الثقافية تعني تكافؤ فرص التعايش بين الأنظمة الفكرية، الديمقراطية الثقافية تعني» أن الأشياء تنمو وتتطور بجوار بعضها البعض».
فالديمقراطية هي « حرية الاختيار من متعدد متنوع» لا « تحديد الاختيار من متعدد آحادي».
فالمحو والإسقاط يخالفان «سُنة الديمقراطية الثقافية» كما أن «التحديد والتصنيف «يخالفانها أيضا.
وإسقاط الانتخابات النظام الثقافي أضر بقيمة تلك الانتخابات ونزاهتها على المستوى العام؛ لأن إقصاء فئة لها تأثيرها على العقل الجمعي «يخالف الديمقراطية» وخاصة في غياب أي استحقاق قانوني لتمثيل تلك الفئة كسلطة تشريعية وتنفيذية تليق «بدورها التأثيري على العقل الجمعي».
وهو ما يلزم بالضرورة مشاركة تلك الفئة كونها تمثل نظاما متكاملا على مستوى التنظير إضافة إلى تأثيرها على تشكيل العقل الجمعي،وخاصة إن كان المعادل المسوّغ لإسقاطها لا يُماثلها نظاما أو تأثيرا.
ويصبح الأمر مقبولا أقصد «إسقاط تلك الفئة الممثلة للنظام الثقافي» في حالة وجود تشريع يُرسمّن استحقاقها القانوني في الوجود والمشاركة من خلال المراكز الثقافية،لأن هذا الوجود هو الذي يمثل توازن القوى أهم قيمة من قيم الديمقراطية الثقافية.
فحينها يمكن تقسيم الأندية الأدبية للأدباء والمراكز الثقافية للمثقفين،وتتحقق عدالة تكافؤ الفرض للمثقفين والأدباء على مستوى السلطتين التشريعية والتنفيذية.
وما عدا ذلك فهو إخلال في توازن مكونات دورة الحياة الفكرية في المجتمع عندما تسيطر فئة هم الأقلية على صناعة القرار التنويري للأكثرية، وإفراغ الحياة الفكرية من أي نظام، فإسقاط النظام الثقافي في غياب أي نظام أدبي جاهز يعني «فوضى ثقافية» سيتعرض لها المشهد الثقافي، وإفراغ من أي سلطة ثقافية.
ومن نافلة القول ومما يُصنف تحت عنوان «شر البلية ما يضحك» أن وزارة الثقافة تعتزم بعد أسابيع من إقامة «ملتقى المثقفين الثالث» ولا أدري كيف يُحدد ملتقى لفئة «أُسقط نظامها» رسميا، ولا تنتمي إلى أي «استحقاق قانوني» أو «هيئة اعتبارية تشريعية»؟!.
كما أن هناك أمرا يجب ألا نغفل عنه وهو أن خروج «المثقفين» من «لعبة الانتخابات» وسقوط النظام الثقافي أضرّ بقيمة وجودة حاصل تلك الانتخابات، وأحسب أن حدوث هذا هو أمر طبيعي في ظل إقصاء المثقف وغياب معايير النظام الثقافي وتصّدر النماذج الأدبية الضعيفة صندوق الانتخابات، وهو ما سينعكس سلبا على مكتسبات مرحلة ما بعد الانتخابات،أو هكذا أعتقد.
وخاصة لو أمتنع فلول النظام الثقافي عن المشاركة كسلطة تنفيذية في برامج الأندية الأدبية بعد الانتخابات.
ولذلك فأنا أعتقد أن المسئولية هاهنا ملقاة على عاتق «فلول النظام الثقافي» في تشكيل «نظام ظل ثقافي» يمنع من إفراغ الحياة الفكرية من السلطة الثقافية حتى يتشكل النظام الأدبي في أدنى مستوياته، ويحافظ على ثبات المشهد الثقافي وعدم حدوث أي فوضى ثقافية أثناء المرحلة الانتقالية الثقافية كما يحافظ على مكتسبات مرحلة الانتخابات الأدبية في أدنى مستوياتها، حتى يسلمها إلى نظام أدبي مقبول.
ومن ثم المطالبة باستحقاقه القانوني من خلال هيئة اعتبارية تُشرّع وجوده وترّسمّن تأثيره. حتى لا يُصبح «من يؤثر لا يحكم» ومن «لا يؤثر يملك الحكم» فتلك قسمة ضيزى، تخالف سُنة الديمقراطية الثقافية وهذا هو التحدي القادم لفلول النظام الثقافي.