إن من المسلمات التي لا تحتاج إلى شواهد كون اللغة ظاهرة صوتية قبل أن يضطر الإنسان إلى تقييدها بالكتابة، وظلت الكتابة عاجزة عن الوفاء بنقل كلّ مضمون القول الصوتي بله مضمون الرسالة الخطابية التي تتجاوز في وسائلها البيانية الأصوات مما يعد نظامًا مباريًا للنظام الصوتي بل ربما تفوق عليه أحيانًا؛ ولكن هذه الفكرة على شدّة ظهورها وجلائها ربما توارت عند الاختبار وأغفلت عند الاعتبار، ولم أكن لأقول ما قلت لولا أني وجدت من بعض الباحثين الكبار من يغفل عن أن الظاهرة الصوتية هي الظاهرة القُدمى وأن الظاهرة الكتابية متأخرة عنها ولا يصح أن تكون هي المنطلق ولا مبدأ التفسير في أمر صوتي في المقام الأول. ومن قبيل التمثيل لا الحصر أنقل مواضع من كتاب (التقاء الساكنين بين القاعدة والنص) لمؤلفه الدكتور عبداللطيف محمد الخطيب نشر في حوليات جامعة الكويت عام2000- 2001م، قال المؤلف «قراءة الجمهور (ولكنّ البرَّ) بتشديد النون، وفيها قراءات أخر، ويهمني في هذا السياق واحدة منها، وهي: (ولكنِ البرّ) بتخفيف النون، ورفع البر على الابتداء. وهذا التخفيف أَدَّى إلى التقاء ساكنين: النون الساكنة وهمزة الوصل من (البر)، فكسرت النون لذلك»(ص48)، والمؤلف نظر إلى الآية المكتوبة لا الآية المسموعة؛ إذ لا وجود لهذه الهمزة في اللفظ، والساكنان الملتقيان هما النون واللام وتكرر هذا الوهم كثيرًا في كتابه. ومن دلائل وهمه عدّه الهمزة في الدرج ساكنة أنه رسم السكون عليها، وهو أمر لا نجده في المصحف ولا غيره، قال «لو: قال تعالى: ?... وسيحلفون بالله لو اْستطعنا لخرجنا ...?» (ص48). ومن إمعانه في الوهم أنه لم يتنبه إلى تقرير الأنباري وتصريحه بالساكنين الميم من البسملة واللام من الحمدلة، قال المؤلف: «قال الأنباري: (بخفض الميم لسكونها وسكون اللام في الحمد، فتسقط ألف الحمد للوصل). قلت: فيلتقي ساكنان: الميم وهمزة الوصل، فكسرت الميم لهذه العلة» (ص51)، وقد يعترض الأنباري بأن الميم ساكنة للوقف وعند الوصل تعاد إليها كسرتها المحذوفة، ومعنى ذلك أنّ هذا ليس من قبيل التقاء الساكنين؛ولكن ذلك لم يعزب عنه إذ قال «ويجوز أن تقول: الكسرة في الميم علامة الخفض لأني بانٍ على الاتصال، فإذا كان مبناي على وصل أول الآية بآخر الآية التي قبلها كان كسر الميم كسر النغت الذي هو إعراب ولم أبن على أنها ساكنة للوقف يكسرها الساكن الذي يلقاها»(إيضاح الوقف والابتداء،1453). وما حرره الأنباري منطلق من اللفظ لا الكتابة.
ومن غرائب ما كتبه المؤلف قوله:
«وفي قوله تعالى: (عَصَوا الرسول).
-قرأ يحيى بن يعمر وأبو السمال: (عَصَوِ الرسول) بكسر الواو على أصل التقاء الساكنين، وحذفت الألف في الكتابة لحذفها في النطق. ومن الغريب أن قراءة الجماعة بالضم مع أنّ النحويين يرون أن الكسر أصل في التقاء الساكنين، ولم يقرأ بالكسر غير هذين القارئين، وهما ممن وراء الأربعة عشر، فتأمّل خرْم التأصيل الذي أَصَّله اللغويون للكسر!!»(ص53)، وواضح أن المؤلف لم يقف على درس التخلص من الساكنين وقوفًا مستوعبًا، وأن لو وقف لوجد أن للأصل الذي أصله اللغويون على الأنماط الكثيرة فروعًا، فالأصل الكسر، ولكن قد يتخلص بالفتح كما في لقاء نون (مِنْ) ولام التعريف، أو بالضم كما في لقاء (واو الجماعة الساكنة) ولام التعريف(انظر: شرح الشافية للرضي، 2: 240)، وأما قراءة القارئين فجاءت على الأصل والرد إلى الأصل جائز كما جاز صرف الممنوع من الصرف لأنّ الأصل الصرف لا عدمه.