نحن هنا في صحاري الشرق لا نميّز الخريف بورقه الأصفر الذهبي، وحياء أشجاره العارية، لكننا نعيشه يأساً وبؤساً وحزناً وذبولا، ويحل لدينا خريف العمر قبل أوانه بسنين، فتستسلم له المرأة في عز عمرها فتذوي وتنطفئ وتستكين، ويسرق الرجلَ وهو في أشده، وهو « في خيمة الأربعين «، حين يطغى الوهم على الواقع، ويحلو خدر الاستسلام، ورفع الراية البيضاء مع تكسر النّصال على النصال..
حتى البيوت لدينا تشيخ بسرعة فلا ياسمين يغطي جدرانها ولا نوافذ تطلّعٍ وفأل وتوق وحنين.
ونحن لا نميز الربيع الطلق الذي يختال، ويكاد يتبسم، لا النيروز الذي ينبّه أوائلَ الورد النوّم، ولكننا مع ذلك نحلم به ونصطفيه، وإنْ عابراً. نحن أهل الشتاء والصيف.. رحلة الشتاء والصيف.. ومزاجنا حاد حدتهما، متطرف تطرفهما.. فنحن نحب حتى نهلك أو نكاد، ونكره حتى نهلك بل نكاد.
ولكننا رغم الصحاري والجفاف سادة الغيم والمطر والشعر والندى الذي هو غيمٌ ومطر..
والحبيبة لدينا حلمٌ به، وبها، فهي مزنة، وديمة، وهتون، وماطرة، ومشيتها مشي السحابة لا ريثٌ ولا عجلُ.
بينما يوقظ الغيم والمطر لدى الآخر بثقافاته المتعددة رمادية الحزن والكآبة الألم والمواجع، فيهرب شعراؤه منه إلى التغني والتغزل بالشمس والإشراق حيث الفأل والأمل بالوصل، وجنة اللقاء حين تنقشع السحب، ويتكشف وجه السماء/ الحبيبة.
ولعلنا نفهم من هذا لماذا كان مطر بدر شاكر السيّاب استثناء لدينا، فهو مطر تبعث إيقاعاته الحزن والألم لولعه وتأثره كمجايليه بالأدب الغربي من ناحية، ولتمزقه من أوضاع العراق الموجعة الحزينة من ناحية أخرى:
مَطَرْ...
مَطَرْ...
أتعلمينَ أيَّ حُزْنٍ يبعثُ المَطَر؟
وَكَيْفَ تَنْشج المزاريبُ إذا انْهَمَر؟
وكيفَ يَشْعُرُ الوَحِيدُ فِيهِ بِالضّيَاعِ؟
بِلا انْتِهَاءٍ - كَالدَّمِ الْمُرَاقِ، كَالْجِياع،
كَالْحُبِّ، كَالأطْفَالِ، كَالْمَوْتَى - هُوَ الْمَطَرْ!
أما أنا فذاكرتي، رغم الحزن، محتشدةٌ بغيمك ومطرك، أستعيده الصيف، ويغسل ثيابي الشتاء. يعِدُني بالجود والندى، ويعيدني للسروات، ويُعدّني للغناء، فأصطفى له الأطفال والنشيد:
تعجّل في المرور فقلت ولّى
وعجّل بالرحيل فقلت غابا
هو المطر الكريم إذا تجلّى
سحابٌ سيّدٌ يتلو سحابا
ها نحن ننتظر الغيث يا غياث، وها أنا أنتظر قصائد الغيم والمطر، قصائد الشجر إذا تطاول وأينع وأثمر!!