«اللغة لا تنطق بذاتها، وإنما ينطق بها أهلُها، فإنْ تغيَّروا تغيَّرتْ.»
(يوسف زيدان، رواية «عزازيل»، على لسان هيبا).
-1-
تحدّثنا في المقال الأوّل من هذه الوقفات مع رواية «النَّبَطي» لـ(يوسف زيدان)(1) عن أن الكاتب مثلما صوَّر الوثنيّةَ المِصْريّة، في روايته «عزازيل»، على أنها ثقافة الجَمال والحضارة والفلسفة، في مقابل المسيحيّة الدمويّة المتوحِّشة، بدا مصوِّرًا وثنيّة الجزيرة العربيّة، في روايته «النَّبَطي»، كذلك بأنها مثال السماحة والطِّيبة والتنوُّع والحضارة، في مقابل الدمويّة التي جاء بها النبيُّ القرشيُّ، كما يسمّيه على لسان أبطاله! وأشرنا إلى ملامح من ذلك، كتصويره لما حلّ باليهود في الجزيرة، وإغفاله الحديث عن أسبابه؛ ووَقْفَة قلمه مع حُزن أمّ البنين وموتها وهي تطوف على صنم اللات، لمّا سمعتْ بهَدْم كعبتها في الطائف؛ وتصويره انقلاب شخوص الرواية بعد إسلامهم، من المسالمة إلى العنف والعداء؛ فـ(سلّومة)- وهو ذلك العربيّ النَّبَطيّ السِّكِّير الذي تزوّج بالقِبْطيّة (ماريّة/ ماوية) واصطحبها معه إلى ديار قومه في شمال الجزيرة- ما أنْ أَسْلَمَ، حتى انقلب حالُه، وتحوّلت طباعه، وصار تاجر حربٍ، كما أنه ما أنْ أَسْلَمَ حتى استولَى على بيت زوجته في مِصْر، وعلى مالها الذي أودعتْه لديه. بل إنه ما لبث أن جعل يفكِّر ويسعَى للزواج على زوجته، مثنَى وثلاثَ ورُباع! وحتى (عميرو)، ذلك الصبيّ الوادع المسالم، أَسْلَمَ فصارت العصا (الشومة)، لا تفارق يده، وتحوَّل إلى شخصٍ عُدوانيٍّ. وكذا كان الدِّين الجديد- بحسب الرواية- سببًا في تشريد الأنباط من ديارهم في شمال الجزيرة، مسلمين ويهودًا ومسيحيّين ووثنيّين، في هجرةٍ إلى الشام ومِصْر(2).
ثم تطرّقنا إلى تلك الظاهرة العامّة اليوم من إعمال الأيديولوجيا في الرواية العربيّة؛ إذ أخذتْ بعض الأقلام تشتغل بالرواية بوصفها جسرًا لبثٍّ فكريٍّ وأيديولوجيٍّ، تصريحًا أو تلميحًا، لينتهي الأمر بخيانة التاريخ والفكر والأدب، في آن! وقلنا إن في هذا استعادة للمفهوم القديم للأدب، بوظيفته التعليميّة، والآخِذ من كلّ شيءٍ بطَرَف. فظهر علينا- فجأة- روائيّون كُثر في العقود الأخيرة، لم يكن لهم حضورٌ يُذكر من قَبل في عالم الأدب.
ونسارع إلى القول هنا: إن هذه الوقفات لا تقلّل من أهميّة الكاتب، ولا من عِلْمه، ولا تصادر حقّه في ما يتصوّر، أو في ما يعتقد، أو يكتب. غير أنها تطرح وجهة نظرٍ نقديّة، تتعلّق بما تراه ينبغي للنصّ الروائيّ من جهةٍ- بوصفه أدبًا، لا عِلمًا ولا أيديولوجيا- وللمعلومة التاريخيّة من جهةٍ، بوصفها عِلمًا لا أدبًا.
-2-
إن السذاجة القرائيّة، من ناحيةٍ، ومن ناحيةٍ أخرى الفرح الطائفيّ بمن يتصدَّى بما ينال من الخصم الدِّيني، تصنع في التلقّي العربيّ الأعاجيب. فهنالك كثيرون هَشَّ المقامُ بهم وبَشَّ لـ»عزازيل»- التي استعادت رواية المؤرّخ الإنجليزي (تشارلز كنجزلي)، بعنوان «هايبيشيا»، 1853- لأنها نالت من التاريخ المسيحيّ في مِصْر، ومجّدوا العمل لهذا البُعد العاطفيّ الطائفيّ، ربما دون أن يقرؤوه. في حين استثارت الروايةُ آخرين، فحطّوا من قدرها، للبُعد العاطفيّ المضادّ. وفي المقابل فلعلّ الفرحين بـ»عزازيل» لا يقرؤون رواية «النَّبَطي» حقَّ قراءتها، في أبعاد خطابها الفكريّة والاجتماعيّة والحضاريّة. لا، بل قد يستغربون مناقشتها النقديّة. ولقد وردتني بعض خطابات مستنكِرةً، مدافِعةً، إثر نشر المقال الأول من قراءتي هذه.
وبعيدًا عن التعصّب الدِّيني، مسلمين أو مسيحيّين- ذلك التعصّب الذي لا ينبغي أن يكون مكانٌ له في مقاربات النقد الأدبي- فقد كان على المؤرِّخ أن يكون أمينًا مع المعلومة التاريخيّة أوّلًا، وقبل كلّ شيء، ليحافظ على احترام القارئ، الذي لم يَعُد- في الغالب- من البلاهة بحيث تُسوَّق عليه الخطابات، «الدِّينيّة» أو «اللا دِينيّة»، من وراء أقنعة الروايات والتاريخ. والمعلومة التاريخيّة مكتنفة عادةً بالتباسات جمّة، محلّ تمحيصها البحوث العلميّة الرصينة، لا الروايات.
ثم إن ذلك الضرب من الأدب المعارفيّ، أو التعليميّ، الذي يتبنّاه (زيدان) في رواياته- كجناحٍ تسويقيّ لبحوثه التاريخيّة واهتماماته الفكريّة- قد كان لعبةً قديمة، ثبتت رداءتها فنيًّا، وثبت فشلُها معرفيًّا، إنْ في النثر أو في الشِّعر. وإنما قد تُستعاد الآن لأغراض شتّى، وهي أغراض أردأ من حوافز التعليم والوعظ العتيقة، تأتي مدجَّجة بالحوافز الأيديولوجيّة والغايات الفكريّة. ذلك أن الأصل في الأدب- من منظور الباحثين في نظرية الأدب- ألّا يُقصد منه إلى القارئ المتخصّص أصلًا، ولا يُهدف به إلى التعليم المباشر والتوجيه المرسوم سَلَفًا، أو إلى جلب المنافع الخاصّة، ناهيك عن الترويج به للأيديولوجيّات المتضادّة. وإنما الأدب ثقافةٌ روحيّةٌ وفكريّةٌ ومتعةٌ إنسانيّةٌ، ينبغي- ليظلّ أدبًا إنسانيًّا- أن يكون منزَّهًا عن التوظيف المُغْرِض في حروب الأفكار والأديان والتيارات(3). وإنْ كانت ما تزال تَطرب لمثل تلك الأعمال الأدبيّة المستلَبة طيورٌ تَطرب لأفكار تحرِّك أوتار أهوائها، ممّن لا يميزون الأدب الحقّ من قوافل المطايا التي تُسَيَّر باسم الأدب، حتى إذا فَحَصْتَ اللغة، وتأمّلتَ لحن الخطاب، اكتشفتَ ما وراء الآكام.
-3-
على أن الأدب قد بات- بصفةٍ عامّةٍ، وبعيدًا عن «النَّبَطي» تحديدًا- مختطَفًا من غير أهله، في تقنية الإعلام والنشر الحديثة؛ وذلك من أجل تسخيره في خدمة أهداف خارجيّة مختلفة. لقد صار من المألوف في هذا السياق- كمثالٍ- أن تجد انتهاك المعرفة الأدبيّة من لصيقين بحرفة الأدب، وإنْ لم يكونوا أدباء، أو بعيدين عن تلك الحرفة. وذلك كأن تجد المُمثِّل المسرحيّ أو السينمائيّ يتحدّث بملء شدقيه عن الدراما النَّصّيّة، ويُفتي في تفاصيل الكوميديا والتراجيديا والملحمة. مع أن الأصل فيه أنه مؤدٍّ لأدوار مرسومة له في النصوص، وتلك أبعادٌ أدبيّةٌ لا يفقه فيها، إلّا كثقافةٍ لازمة، وفي حدود صنعته، ما لم يكن صاحبنا أديبًا أو ناقدًا أدبيًّا. مثلما أنه لا يمكن للمغنّي، بوصفه مغنِّيًا، أن يفهم في البنية الشِّعرية، إلّا في نطاق فنيّاتٍ معيّنة تمسّ مجاله الأدائيّ الخاصّ؛ لأن تلك ليست بشَغْلَتِه، ما لم يكن بنفسه شاعرًا أو ناقدًا. وكما تجد هؤلاء في إطار الصنْعات الفنيّة الرديفة للأدب، تجد من غير هؤلاء- ممّن هم بعيدون عن الأدب إجمالًا وتفصيلًا- مَن يتوسّل الأدب لعرض قضايا معرفيّة شتّى، كالمؤرّخ والمفكّر والسياسي، الذين يُقحمون أنفسهم في هذا الميدان، وليسوا بأدباء أصلًا، وإنما يسعون لاستخدام الأدب سُلَّمًا لإيصال رسائلهم. هذا فضلًا عن تطلّعات أخرى، لا تخفَى، من البريق والذيوع والمال: من تحت رأس الأدب، وعلى حسابه. وما بعض المسلسلات «الرمضانيّة» التافهة حول مشاهير الشعراء- كمثالٍ آخر- إلّا بعض تلك المتاجرة الرائجة بالأدب والأدباء، وبلا حدود ولا ضمائر.
-4-
من وجهٍ آخر- وإلى جانب ما لوحظ في المقال السابق من أن رواية «النَّبَطي» قد بَثَّتْ خطابًا أبسط ما يُقال فيه إنه صَوَّر الإسلام في القرن السادس الميلادي بمثابة نكبةٍ حَلَّتْ حتى بمعتنقيه- يُلحظ أن الكاتب كان يجازف بإسقاطات تاريخيّة اجتماعيّة تُخالف ما هو معروف من تاريخ الثقافة العربية وتحوّلات القِيَم الاجتماعيّة فيها. من ذلك أنه يُصوِّر النساء العربيات (أو النبطيّات)- خلال تلك الفترة، وقبل الإسلام- وهنّ لا يلبسن سوى السواد، ويغطِّين الوجوه، وإنْ لم يكنّ مسلمات! ولذلك صَوَّر البطلة مارية- القِبْطِيّة المسيحيّة القادمة إلى حدود العرب- وهي لا تستطيع رَفْعَ نقابها عن وجهها لتتنفس الهواء! وقد كان هذا الفرضُ مثارَ دهشتها وصدمتها بالصحراء وأهل الصحراء، بتوحّش بدوها، وقسوة بيئتهم، ونُبُوّ طباعهم، وغرابة أعرافهم، قياسًا إلى جمال مِصْر، وتحضُّر مجتمعها، وانفتاح أهلها! ولسنا ندري علامَ استند الكاتب في ذلك؟! فالمعلوم أن المرأة العربيّة ظلّت- قبل فرض الحجاب الإسلاميّ، ولأسباب معروفة- تمارس حياتها سافرةً، مخالطةً للرجال، بصفةٍ طبيعيّة. ثم إن «السواد» إنما حلّ بالمرأة في حِقَبٍ تاليةٍ جدًّا من التاريخ الإسلامي. بل لقد أصبحت أزياء النساء المفروضة رسميًّا في العصور المتأخّرة، كما في عصرنا هذا، تجارةً رابحةً، كأشياء أخرى في حياتنا، ووسيلةً من وسائل الابتزاز الاقتصاديّ، أحيانًا. إذ أصبحت المرأة ملزَمةً قسرًا بزِيٍّ محدَّدٍ، ولم يَعُد يكفي الاحتشام أو الحجاب، بل هي مطالبة أيضًا بلونٍ مخصوص، هو «الأسود» لا غير! فاشتغل التُّجّار على هذا الباب من الرِّزق- الذي تأسَّسَ- أيّما اشتغال. وهو ما يذكّرنا بحكاية تاجر الخِمارات السُّود في القرن الأوّل للهجرة، الذي أكسبه شِعر (مِسْكين الدارمي، -89هـ= 708م)، عن «المليحة في الخِمار الأسود»، من الرِّزق ما لم يحتسب! فمَن قال إن ذلك كان ديدن العرب- ومنذ ما قبل الإسلام- قبل عزيزنا الأستاذ الدكتور يوسف زيدان في رواية «النَّبَطي»؟! [وللوقفات بقية].
(1) المقال الأوّل: جريدة «الجزيرة»، الخميس 17 شوّال 1432هـ= 15 سبتمبر 2011م.
(2) والمؤلِّف ما يفتأ يَصِم الإسلامَ والمسيحية واليهودية بالارتباط بالعنف، مظهرًا- في المقابل- إعجابه بتسامح دياناتٍ أخرى، كالبوذيّة، وذلك ما عبِّر عنه في كتابه «اللاهوت العربي وأصول العنف الدِّيني»، (القاهرة: دار الشروق، 2010، انظر: ص22- 23).
(3) انظر في هذا مثلًا: لانسون وماييه، (1946)، منهج البحث في الأدب واللغة، تر. محمّد مندور (بيروت: دار العلم للملايين)، 21.