تجربة الكتابة هي رديف لتجربة الحياة ذاتها، هي حياتنا موضوعة في إطار، تحوّلاتنا، مواقفنا، مرآتنا، الكتابة هي كل ذلك، ومن كان تصنيفه للكتابة يقل عن ذلك، فهو لا يتحدث عن تجربة متكاملة، بل عن هواية مارسها لبعض الوقت ثم انكفأ !
خاطبت فانيسا أخت فرجيينا وولف ابنتها قائلة :
(خالتك محظوظة، لديها حياتان، حياة تعيشها، وحياة تكتبها في القصص).
وهي بذلك تشير لنوعين من الحياة يمتلكهما الكاتب، حياته التي يكتبها الرب في اللوح المحفوظ ويكتب فيها أهو شقي أم سعيد، وحياة موازية يخلقها الكاتب نفسه في أوراق مقدّسة تحتمل الشعر كما تحتمل النثر، ويقرر فيها سعادة وشقاء آخرين، يرسم الأقدار، ويتحكّم بالنهايات، يعاقب من يشاء، وينتصر لمن يشاء.
بالكتابة يمحو المبدع غبش الصورة ويدلف إلى صورة أكثر صفاء، ربما أكثر نزاهة وعدلاً، بهذا المعنى يتحوّل الكاتب إلى خالق، يصنع مدناً فاضلة، يطعن في التاريخ ويعيد روايته، يشير للخبث، يمارس الجرح والتعديل، يرتب الكون كما ينبغي له أن يكون، من زاويته ووجهته وربما من عقده وهواجسه السوداء !
الكاتب يمتلك تلك الحرية الكاملة حين يكتب ولا شيء يفسد عليه هذه الهبة إلاّ الرقيب الذي إن لم يكن ذاتياً فهو أخلاقي أو ديني أو سياسي.
والكاتب الذي يمنح نفسه صفة الخالق متجاوزاً محنة الرقيب بكافة أطيافها، لابد أن يدفع الثمن مضاعفاً ألف مرة، والتاريخ يروي لنا كم سفك من دم على ( نطع الرقابة ) سواء اتفقنا مع هذا الرقيب أو اختلفنا معه.
وحديثي هنا عن هذه الكتابة الخالقة، تلك التي تتجاوز سلطة الرقيب وتصنع حياة مختلفة ونصاً مختلفاً، لا تلك الكتابة التي تتخلق تحت عباءة الرقيب ولا تخرج عن سلطته.
هذا الرقيب يبدو أكثر شراسة وأقوى نفوذاً مع المرأة / الكاتبة، التي تخلق نصاً متمرداً وثائراً ضد كل أطياف السلطة الواقعية والمتخيلة، يحاكم مجازات النص التي تمس الأعراف أو التقاليد، يجرمها ويدينها، وهو يفعل ذات الشيء مع الكاتب، إنما بحدّة أقل.
تقول فرجيينا وولف في السياق نفسه وهي تتحدث عن تجربة (جين أوستن) إحدى الروائيات الإنجليزيات:
(وإذا كانت جين أوستن قد عانت بشكل ما جراء ظروفها، فإنّ ذلك كان بسبب محدودية الحياة التي فرضت عليها، فقد كان من المستحيل على امرأة أن تنتقل لوحدها، فهي لم تسافر أبداً !! ولم تستقل مركبة عامة وسط ولم تتناول وجبة غداء في مطعم بمفردها).
أقف طويلاً أمام عبارتها (محدودية الحياة التي فرضت عليها).
وأتساءل، كم كاتبة في العالم العربي تستطيع أن توسع من محدودية هذه الحياة، وتخرج من بوتقة الحياة النمطية التي قدرت لها، لتكتب شيئاً مختلفاً، وربما هذا ما يفسر الذاتية المفرطة التي تكتب بها المرأة، وهو أمر لا أجده معيباً، فالإبداع في نهاية الأمر يتعلق بالكيف لا بالموضوع الذي يطرق.
لكني هنا أحاول أن أربطه بالسياقات الاجتماعية والدينية التي جعلت من المرأة النصف الذي (يقر في البيوت) والذي يثاب على فعل ذلك، بينما جعل أمر (خروجها من البيت) أمراً مكروهاً قد تأثم بسببه ! هذه البقعة الضيقة التي حصرت المرأة بداخلها، جعلتها تنظر لعلاقتها بالرجل كمحور وحيد لحياتها وكتابتها.
وهو أمر كما ذكرت لا ينتقص من أدب المرأة، رغم أنني أنزعج كثيراً من الأصوات التي تغيّب إبداع المرأة بانتقاصها من الموضوع الذي تطرقه، لمَ لم تنتقص هذه الأصوات من تجربة وإبداع نزار قباني، وهو شاعر المرأة الذي ظل يدور في فلكها جسداً وروحاً في أغلب ما كتب، لم أسمع بناقد أو كاتب عاب على نزار ذلك أو اعتبر تجربته تجربة أقل لأنها تدور حول قطب المرأة، بل أصبح خطه الكتابي مدرسة قائمة تسمّى (المدرسة النزارية).
هل لأنّ الغزل باب عتيق من دواوين العرب ومباح للرجال فيه ما لا يباح للمرأة ! سواء أكتبت غزلاً صريحاً في الرجل أو كتبت ما يشبه الذم، وهي تستعرض مفاصل الحياة معه كذكر مهيمن ومسيطر.
أتألم كثيراً حين تنهي قاصة أو شاعرة أمسيتها ثم يأتي من يطبطب على ما سمع لامزاً ما سمع بالذاتية المفرطة، وكأنّ هذه الكتابة لا يمكن أن ترتقي في الإبداع ما لم تكتب على ظلال الشارع وهموم الاقتصاد والنفط، وهو بذلك يجعل للكتابة تصنيفاً أعور لا يرى سوى بعين واحدة.