في النصف الثاني من سبعينات القرن الميلادي الماضي دارت في قرى الجنوب، كما شهدتُ بعيني، معركة جفاء غليظ ونفي وإقصاء، موجَّهَة إلى الحمار الذي شارك الفلاحين والبدو، هناك، حياة الشظف والوعورة والكدح، وتحمَّل صنوف التعب والبؤس والنكال. ومن المؤكد أن تلك المعركة قد دارت تجاه الحمير في باقي أرياف المملكة والخليج وبواديهما، التي عاشت، في تلك الآونة نقلة مفاجئة تضافر فيها دخول اليابان على خط إنتاج السيارات وعربات النقل الرخيصة وما إليها من التقنيات الآلية، مع نتائج الطفرة البترولية التي فاضت بالمال في أيدي الناس.
وليس في الأمر من بأس على ما يبدو! فالضحية هنا هو الحمار، والحمار -كما هو اسمه- شُحْنة من دلالة طافحة ثقافياً بالحقارة والبلادة والغباء. وهو في خدمته للإنسان لا يقوم بذلك تفضلاً وكرماً بل قَهْراً وسُخْرة وامتهاناً. وهكذا لم يزهد الناس آنذاك في حيوان أكثر من زهدهم في الحمار، الذي لاح كما لو كان زهداً مفاجئاً وليس في الحسبان. وأخذ أهل القرى يشحنون حميرهم في شاحنات لتلقي بها بعيداً، وكان بعضهم يمارس وحشية عنيفة بتقييدها في أسفل الوادي أو في منعطف الجبل بقصد أن تلتهمها السباع، حتى لو كان ذلك بعد موتها جوعاً. وظللنا نسمع تحسرات دامعة تطلقها بعض العجائز حين يُفَاجَأن ذات صباح بعودة حمارتهم التي ألقوا بها بعيداً قبل أسبوع أو أكثر!.
لم تنتفض هذه الحمير البائسة على أهلها، لم تهاجمهم، ولم تعلن الارتحال عنهم في أرض الله الواسعة. بل أعلنت رغبتها في البقاء في خدمتهم، والعيش في ظلهم، فهي لا تقوى على وجع البعاد، ولا تتحمل الهجر والتغريب! لكن الأهلين لا يريدونها. إنهم يعلنون المعركة ضدها، ويهجِّرونها قسرياً. هنا، بدت المعركة من طرف واحد، وهو طرف لم يكن يمارس –في الحقيقة- المعركة مع الحمير، بل كان يمارسها، مع ذاته التي صارت هذه الحمير بعضها. ولهذا كانت صفةُ هذه الحمير، التي لا توصف بضدها، الحميرَ (الأهلية) وهو معنى يتمثله ذلك النوع من الحمير تمثلاً يحقق له الاتصاف به فيغدو هويته المعرِّفة له، والهوية بيت الكائن الذي يستميت عادةً على استمرار العيش فيه.
الذين استمعوا إلى ما يحكيه أهل القرى عن معركة الحمير -كما يمكن أن نسميها- استعادوا تاريخ الحمار، ولَفَتَتْهُم المسافة التي تفصل -بقدر ما تَصِل- بين ابني العمومة: الحمار (الأهلي) والحمار (الوحشي). هل كان أصل الحمار الأهلي وحشياً؟! أم أنه لا يمت بصلة إلى النوع الموصوف بالوحشية؟ لماذا –إذن- نسمِّي هذا الأخير حماراً؟ أليس الحمار اسم جنس يسمِّي الأصل، وغير ذلك من الصفات لاحق للجنسية لا سابق؟ منذ متى انفصل عن التوحش وفارق الحرية؟ وأي قيمة وجودية ومعنوية افتقدها؟ هل أصبح عَيْشُه أكثر رغداً واطمئناناً في الحظيرة؟! لماذا لا يحلم بحياة الانطلاق والبرية؟ هل يمكن له أن يستعيد أصله؟ وأي قيمة وجمال وفتنة يؤول إليها حين يغدو وحشياً؟
لكن يبدو أن هذه الأسئلة أقرب إلى الاختصاص بالحمار، وهي –إذن- أمعن في الإيذاء له معنوياً، وأكثر إهانة وتجريحاً! فلا يسوغ أي من الأسئلة السابقة تقريباً، على الجِمال أو الأبقار أو الأغنام، وقد كانت رفيقة للحمار وقرينة له في تعب القرى والبوادي، ومواسم عذاباتها أو هنائها المتكررة. وذلك لأن الأهلين في القرى والبوادي لم يزهدوا فيها، ولم يلقوا بها للسباع، بل على العكس ازداد فخرهم بها وإدلالهم، وأخَذَ المال في أيديهم يزيِّن لهم امتلاك قطعانها، ويغريهم بالتباري في الاستكثار منها. وبرزت مسابقات تتنافس فيها مزايين الإبل على امتلاك أعلى مقادير الجمال، وأصبح للأبقار والأغنام مزارع بشروط حياة جيدة وأحياناً مرفَّهة، واستقدم صغار الملاك وكبارهم رعاةً لمواشيهم من الخارج!.
صحيح، هنا، أن الشرط العملي والاقتصادي في المعادلة هو الذي آل بالحمير إلى النفي من الحياة، لكن الحياة بألف لام (العهد) وليس (الجنس)، إذ في الحياة أشياء كثيرة لا ينطبق عليها ذلك الشرط، بالدلالة المحدودة التي يمكن أن نفهمها في سياق التحول النفطي في حياتنا العربية، ونحن نحرص عليها ونغليها، لشروط أخرى غير عملية أو اقتصادية. وإذا رجعنا إلى مقولة نجيب محفوظ أن «الوحش أقدم من الإنسان»، فإن الرقي الحضاري المستمر، هو الذي يصنع الحقوق ويحميها، وهو الذي يولِّد وجهة الاستغلال لغير المفيد، بحيث تغدو هذه الوجهة، كما هي ملاحظة فرويد، علامة على رقي شعب ما حضارياً.
لك الله –إذن- أيها الحمار! هكذا عرفتُ، الآن، لماذا تداولك الأدباء والفلاسفة منذ أبوليوس إلى توفيق الحكيم وحمزة شحاتة، رمزاً للمظلومية، وتمثيلاً على الفلسفة التي لا ترى إلا بمقدار ما يغدو نظرها كلياً. وإذا كان الله قد قيظ أمثال الحسناء (سابقاً) بريجيت باردو للاهتمام بالحيوان و المطالبة بحقوقه، فإن أي اهتمام -على ما يبدو- يتجه إلى الحمير ويطالب بحقوقها أو يؤسس لمناصرتها جمعية أو نحوها، سيكون موضع شماتة وتهكم، خصوصاً حين يجمع تلاشي الفائدة العملية والاقتصادية، أو أجواء العبودية والسخرة والامتهان، بين الإنسان والحمار في فقدان القيمة والكرامة.
ولقد أثار فزعي وحيرتي ما بثته الأخبار عن قيام الجيش السوري، الذي يتصدى لمظاهرات المواطنين المطالبة بالحرية والكرامة، بإطلاق النار مباشرة على الحمير. ولست أدري لماذا بدت الحمير في المشهد الدموي مجتمعة في قطعان؟ هل كانت هي الأخرى في مظاهرة؟ ما الذي دعاها إلى ذلك؟ أم كان إعدامها جزءاً من عقوبة المتظاهرين التي يبدو الموت أهونها؟ وعلى أي حال، أيهما أكثر فجيعة وصدماً، في الحدث نفسه، مشهد القتل للإنسان أم القتل للحمار؟ إنه قتل الإنسان طبعاً، بل هو في الحقيقة، اجتماع القتل عليهما معاً، لأن القتل هنا يأخذ صفة أكثر إمعاناً في التجبر والتعجرف والغشامة ومجافاة كل حكمة أو قيمة. فماذا لو كان القتل مسلطاً على الحمير فقط؟ هل يكون هذا هو اختصاص الممثلة الحسناء، وجمعيات الرفق بالحيوان؟!
لابد أن قتل الحمير جزء من عقوبة التظاهر والمتظاهرين، فكيف اجتمع الحمار والإنسان وتعاضدا على العصيان للزعيم، وإرادة الفكاك من قيده!. أليس عذابك أيها الحمار في إطلاقك حُرّاً؟ هل فهمتُ أنا من عذاباتك حين اجتاحتك ونيتات العراوي (عربات الشحن الصغيرة) في السبعينات، فلم تغضب لقيام الفلاحين والبدو بالتخلص منك، وظللت تدافع جفاءهم إياك بمحاولاتك المستميتة للعودة، أنك لا تسعد إلا في قيد الحظيرة؟ هل عليَّ أن أغيِّر أفكاري تجاهك؟ هل تهتف للأحرار وتفرح لهم وتمشي في ركابهم؟ كنتَ تحتجُّ –إذن- أيها الحمار على الفلاحين والبدو! كنتَ تقول لهم: لن أبرح هذا المكان لأنه وطني، عملت فيه مثلما عملتم، شاركتكم حره وبرده، واستحممت بشمسه وترابه، وأحببت وأنجبت، وسعدت وحزنت، وتعبت أكثر مما تعبتم، وفيه ولُِدت وعليه أموت، إنه وطني مثلما هو وطنكم! لكنهم لم يكونوا يفهمونك، أو أنهم تجاهلوك وأنكروا مشاعرك وانتماءك فأنت أولاً وأخيراً وطولاً وعرضاً حمار!
«يا لك من كائن ديموقراطي جميل!» هتفتُ لك بهذه العبارة، أيها الحمار، حين قرأت عن ذلك القروي البسيط الذي علَّق صورة للرئيس على حماره ليظهر ولاء حماره للنظام ولكن رجال الأمن فهموا فعلته بشكل خاطئ، فجرّوه مع حماره للتحقيق! وكانت التهمة –طبعاً- ما نطقتَهُ أنت وما دللت عليه بديموقراطيتك التي تهين الرئيس، وتُكْسِبه معرَّة أن يقترن -وهو الرئيس- بالحمار الأليف! أرأيت كم أنت دليل الديموقراطية؟ لهذا اتخذك الحزب الديموقراطي الأمريكي شعاراً رسمياً له منذ عام 1880م، والذي وجده فيك هو نبع من المعاني المضادة للتسلط، والمقترنة بالشعب. وتبدأ حكايتك الأمريكية هذه في انتخابات 1828م التي أطلق فيها خصم المرشح الديموقراطي أندرو جاكسون عليه لقب (الحمار) بسبب شعاراته الشعبية، وترداده لعبارة «لندع الشعب يحكم» لكن جاكسون لم يغضب من اللقب، بل استغله لمصلحته، واتخذك رمزاً لحملته، مفجراً معانيك التي لا نتذكرها إلا حين يسحقنا القهر والطغيان.
إن الحمار دلالة شعبية، تتصل بالبسطاء وعامة الناس وتدل عليهم، فامتلاك الخيل والأحصنة معنى امتياز لا قبل للبسطاء به، ولم تكن الخيول ولا حتى البغال شائعة الاستخدام على المستوى الشعبي. ولعل الحمولة الثقافية الضخمة من هجاء الحمار أو الهجاء به تتقارن مع ما يلقاه البسطاء –دوماً- من سحق واحتقار. وهو ما أنتج –في الوقت نفسه- دلالة مديح الحمار وتمجيده الأخلاقي والاجتماعي من منظور التقابل بين الكبر والتواضع، والنخبة والعموم، وخاصة الناس وسوادهم، فكل كبر وغطرسة وتعسف هو مدلول يجافي العموم والشعبية. هذا العموم وتلك الشعبية اللذان كسبا من شيوع التعليم وثورة المعلومات ما قلب سلم العلاقة بين الفوق والتحت، إلى علاقة تجاور.
وأتصور، من هذا المنظور، أن دلالة الحمار التي كان إقدام شبيحة سوريا على إنزال مجازرهم البشعة بقطعانه، هي علامة إحساسهم بتناميها في استعادة وعي الأهلية -التي هي جزء من دلالة الحمير- لدى المقهورين في أوطانهم بالاستبداد والعسف. وهذا التنامي للدلالة هو ما جعل حزباً كردياً في العراق يتسمى بـ»حزب الحمير» من دون أدنى شعور بالإهانة والذم. والفلسفة التي تقوم عليها تسمية هذا الحزب تحيل على العلاقة بين الحمار والحقوق، تماماً كما هي العلاقة التي تتضمنها مواثيق العقود التي تؤلف المجتمعات، وتخلق سلطاتها، ونخبها الحاكمة. لكن وعي العلاقة بين الحمار والحقوق في فلسفة هذا الحزب هي علاقة سلبية دوماً، فالحمار –يقول أمين عام الحزب عمر كلول– «الحيوان الوحيد الذي يعمل ويتعب ويشقى ويتحمل ولكنه محروم من جميع الحقوق». وبالطبع فإن الحزب يستمد من علاقة الحمار بالحقوق منظوره السياسي الذي يؤلف به الناس حوله ويحشدهم من أجله.
ولا أدري لماذا تقارن الحمار في المخيال الشعبي مع نبوءة الحظ والمستقبل، هذه النبوءة التي تحيل على مخاوف الإنسان وآماله، ورغباته وآلامه. ولكن المهم هو توليد المخيال الشعبي لدلالة الحمار على نبوءة مستقبلية ووجودية للإنسان. وفي تفسير الأحلام، مثلاً، نجد عند ابن سيرين أن «الحمار جد الإنسان كيفما رآه سميناً أو مهزولاً، فإذا كان الحمار كبيراً فهو رفعته، وإذا كان جيد المشي فهو فائدة الدنيا، وإذا كان جميلاً فهو جمال لصاحبه، وإذا كان أبيض فهو دين صاحبه وبهاؤه، وإن كان مهزولاً فهو فقر صاحبه، والسمين مال صاحبه، وإذا كان أسود فهو سرووه وسيادته، وملك وهيبة وشرف وسلطان. وموت الحمار يدل على موت صاحبه، وقيل من مات حماره ذهب ماله، وإلا قُطعت صلته أو وقع ركابه أو خرج منها، أو مات عبده الذي كان يخدمه، أو مات أبوه أو جده الذي كان يكفيه ويرزقه، وإلا مات سيده الذي كان تحته، أو باعه أو سافر عنه... ومن ملك حماراً أو ارتبطه وأدخله منزله ساق الله إليه كل خير ونجاه من هم... ومن صُرع حماره افتقر». إنها جميعاً دلالات تذهب بالحمار إلى مسافة وجودية تطوِّق الإنسان بأسبابها، لأنها تنبئ بمستقبله!