ارتأى الأحوذي أن النقاش حول التطور التاريخي للشعر العربي، ارتبط بنقاش موازٍ حول حديث للنبي -صلى الله عليه وسلم- يوضح حدود ومغزى العلاقة بين الشعر والقرآن، ومخاوف المسلمين من أن يشغلهم الشعر عن الكتاب. قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا)، وظَاهِرُهُ الْعُمُومُ فِي كُلِّ شِعْرٍ، لَكِنَّهُ مَخْصُوصٌ بِمَا لَمْ يَكُنْ مَدْحًا حَقًّا كَمَدْحِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَا اِشْتَمَلَ عَلَى الذِّكْرِ وَالزُّهْدِ وَسَائِرِ الْمَوَاعِظِ مِمَّا لَا إِفْرَاطَ فِيهِ. وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَدِفْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقَالَ: هَلْ مَعَك مِنْ شِعْرِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ شَيْءٌ؟ قُلْت نَعَمْ، قَالَ «هِيهِ»، فَأَنْشَدْته بَيْتًا فَقَالَ: هِيهِ، ثُمَّ أَنْشَدْته بَيْتًا فَقَالَ: هِيهِ. حَتَّى أَنْشَدْته مِائَةَ بَيْتٍ. وقَالَ اِبْنُ بَطَّالٍ: ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: (خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًاً) يَعْنِي الشِّعْرَ الَّذِي هُجِيَ بِهِ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَاَلَّذِي عِنْدِي فِي هَذَا الْحَدِيثِ غَيْرُ هَذَا الْقَوْلِ ؛ لِأَنَّ الَّذِي هُجِيَ بِهِ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- لَوْ كَانَ شَطْرَ بَيْتٍ لَكَانَ كُفْرًا، فَكَأَنَّهُ إِذَا حَمَلَ وَجْهَ الْحَدِيثِ عَلَى اِمْتِلَاءِ الْقَلْبِ مِنْهُ، أَنَّهُ قَدْ رُخِّصَ فِي الْقَلِيلِ مِنْهُ، وَلَكِنْ وَجْهُهُ عِنْدِي أَنْ يَمْتَلِئَ قَلْبُهُ مِنْ الشِّعْرِ حَتَّى يَغْلِبَ عَلَيْهِ، فَيَشْغَلُهُ عَنْ الْقُرْآنِ وَعَنْ ذِكْرِ اللَّهِ فَيَكُونُ الْغَالِبُ عَلَيْهِ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْقُرْآنُ وَالْعِلْمُ الْغَالِبَيْنِ عَلَيْهِ، فَلَيْسَ جَوْفُهُ مُمْتَلِئًا مِنْ الشِّعْرِ. قَالَ الْحَافِظُ: وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ التَّأْوِيلَ الْمَذْكُورَ مِنْ رِوَايَةِ مُجَالِدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ مُرْسَلًا، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَقَالَ فِي آخِرِهِ: يَعْنِي مِنْ الشِّعْرِ الَّذِي هُجِيَ بِهِ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَقَدْ وَقَعَ لَنَا ذَلِكَ مَوْصُولًا مِنْ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ، فَذَكَرَهُمَا الْحَافِظُ وَضَعَّفهُمَا.قُلْت: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الِامْتِلَاءِ أَنْ يَكُونَ الشِّعْرُ مُسْتَوْلِيًا عَلَيْهِ، بِحَيْثُ يَشْغَلُهُ عَنْ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ وَالْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ وَهُوَ مَذْمُومٌ مِنْ أَيِّ شِعْرٍ كَانَ. وَقَدْ تَرْجَمَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَةِ اِبْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، بَابُ مَا يُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ الْغَالِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ الشِّعْرَ، حَتَّى يَصُدَّهُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَالْعِلْمِ وَالْقُرْآنِ. قَوْلُهُ: (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ.
في إطار هذا النقاش، استفاض المؤرخون والفقهاء في رواية قصة ابن الشريد مع النبي -صلى الله عليه وسلم- حين أردفه خلفه، وطلب منه أن يقرأ من شعر أمية بن أبي الصلت، فالنووي ينقل الرواية ذاتها، للبرهنة على أن ما رغب النبي -صلى الله عليه وسلم- في سماعه هو على وجه الحصر والتحديد الجوانب التوحيدية (الدينية) إذ يقال في الموارد التاريخية: (مَثل ُبلعم بن باعوراء في بني إسرائيل كمثل أمية بن أبي الصلت في هذه الأمة) في كونه آمن شعره وعلمه وكفر قلبه. ولذلك يقول النووي (وحَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ وَابْنُ أَبِي عُمَرَ كِلَاهُمَا عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ عَنْ أَبِيهِ، قَال رَدِفْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمًا فَقَالَ هَلْ مَعَكَ مِنْ شِعْرِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ شَيْءٌ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ هِيهْ، فَأَنْشَدْتُهُ بَيْتًا فَقَالَ هِيهْ، ثُمَّ أَنْشَدْتُهُ بَيْتًا فَقَالَ هِيهْ، حَتَّى أَنْشَدْتُهُ مِائَةَ بَيْتٍ. وعَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ اسْتَنْشَدَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ، وَزَادَ قَالَ إِنْ كَادَ لِيُسْلِمُ فِي شِعْرِهِ). وَفِي رِوَايَة أخرى (فَلَقَدْ كَادَ يُسْلِم فِي شِعْره). وَمَقْصُود الْحَدِيث أَنَّ النَّبِيّ اِسْتَحْسَنَ شِعْر أُمِّيَّة، وَاسْتَزَادَ مِنْ إِنْشَاده لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِقْرَار بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَالْبَعْث، فَفِيهِ جَوَاز إِنْشَاد الشِّعْر الَّذِي لَا فُحْش فِيهِ وَسَمَاعه (سَوَاء شِعْر الْجَاهِلِيَّة وَغَيْرهمْ، وَأَنَّ الْمَذْمُوم مِنْ الشِّعْر الَّذِي لَا فُحْش فِيهِ إِنَّمَا هُوَ الْإِكْثَار مِنْهُ، وَكَوْنه غَالِبًا عَلَى الْإِنْسَان). فَأَمَّا يَسِيره فَلَا بَأْس بِإِنْشَادِهِ وَسَمَاعه وَحِفْظه.