يذهب عالم الاجتماع علي الوردي في كتابه المسمى (أسطورة الأدب الرفيع) إلى أن قريشاً كانت تولي اللغة العربية اهتماما ً كبيراً ولهذا الاهتمام أسباب عدة ذكرها الوردي ومنها التفاخر والاستعلاء بهذه اللغة على الآخرين وهذا الاستعلاء جاء بسبب الترف الذي كان يعيشه المجتمع القرشي حينذاك، ولذلك نجد أن من الأغنياء من قريش من يقوم بإرسال أبنائهم إلى البادية لتعلم اللغة العربية المعربة الخالية من اللحن والرطانة، أما السبب الأخر إزاء ذلك الاهتمام باللغة فهو شيوع اللحن والرطانة الأعجمية في المجتمع القرشي قبل الإسلام لأن المجتمع في مكة كان يختلط بشعوب وقبائل كثيرة وهذا الاختلاط سببه التجارة, وكان من لغته العربية سليمة ونطقه صحيحا يعد من سادات القوم بل أصبحت اللغة حينذاك ترمز إلى تمايز طبقي في ذلك الزمن, فمن لا يجيدها يُستحقر ومن يعلم بفنونها ينظر له باحترام وتبجيل. أما عادة إرسال الأبناء إلى البادية فقد انقطعت تماماً بعد مجيء الإسلام وخاصة في المدينة المنورة كما يقول الوردي «لم يخبرنا التاريخ عن أحد أرسل ولداً له إلى البادية ليتعلم فيها اللغة في عهد محمد وخلفائه الراشدين». ولكن في العهد الأموي رجعت هذه العادة وذلك ليس حباً للغة بل من أجل التفاخر بها أمام الآخرين والاستعلاء على الأدنى من الناس ويشعرونهم بأنهم متميزون لغوياً ويقول الوردي في الكتاب نفسه «ومما يجدر ذكره في هذه المناسبة أن التمايز اللغوي لا يشيع إلا في مجتمع طبقي. وكلما قلت الفروق الطبقية بين الناس وانتشرت مبادئ المساواة والديمقراطية, ضعف اهتمام الناس بالحذلقة اللغوية وأصبحت وسيلة للتفاهم لا للتباهي والكبرياء». ولو ننظر اليوم وخاصة في القرن الواحد والعشرين نستنتج أن التباهي باللغة الأجنبية وخاصة الإنجليزية أصبحت عادة شائعة بين الناس ونلاحظ أن من يتحدث اللغة الإنجليزية يتكلم بها في مجتمعه العربي ومع العرب أنفسهم في الشارع، أو البيت أو في المحلات بل وصل الحال إلى بعض الناس عندما تكون معه مقابلة ما في التلفاز أو الراديو يقوم بالمزج بين اللغة العربية وبعض المفردات الإنجليزية في أثناء المقابلة وهو ليس مضطراً إلى ذلك، وحينها نجد بعض المستمعين قد ضاع عليهم المعنى أو جزء من مضمون الحوار. وأضيف إلى ذلك مشهداً حدث لي ذات يوم عندما كنت جالسا في مجلس كبير وفيه عشرات الناس وكان بجواري شخص يرطن لي باللغة الإنجليزية وهو عربي وكل الحضور عب !! ولست أدري ما هي الأسباب حيال ذلك؟ فهل هي عقدة أو الشعور بالدونية تجعل الشخص يبحث عن بعض الوسائل ليشعر الناس بأنه متميز، وربما كان وراء هذا التصرف البحث عن الاستعلاء على الآخرين - وهذا ليس إلا من الكبرياء والتفاخر والنظر إلى الناس بنظرة دونية تستحقر الآخر - وكأن البعض ممن يجيد اللغة الأجنبية يقول انظروا إلي ها أنذا متميز بلغتي وأنا إنسان متطور!. وهذا الشيوع الظاهر الحاصل في المجتمعات العربية دليل على التمايز الطبقي حتى أصبحت اللغة اليوم عنصرية جديدة لا يشعر بها إلا القلة القليلة من البشر. فكيف نفسر من يقوم بالتحدث باللغة الأجنبية في مجلس عربي وكل الوجوه والحضور عرب، فهل يوجد مبرر وراء هذا التصرف غير المقبول؟ لقد أصبحت اللغة الإنجليزية في بعض المجتمعات العربية رمزاً للتفاخر وتحولت عند البعض من لغة البحث والعلم إلى لغة التفاخر والتمايز الطبقي في اللغة، وما صفحات بعض الصحف العربية وكذلك صفحات الإنترنت وخاصة صفحات الفيسبوك أو المنتديات إلا دليل على ذلك الشيوع الخطير في مجتمعنا العربي الطبقي. فمن يستطع أن يوقف التمايز الطبقي في اللغة؟
batawil@gmail.com
* جدة