يتمتع المبدعون على اختلاف أساليبهم باستشراف المستقبل، يتخيلون أحداثه، يبنون عليها الكثير من الأفكار، استباق لا يعني علم الغيب أو التنبؤ، بل اعتمادا على المظاهر والأحداث التي تسبق تلك التوقعات كما يقال، إن البعرة تدل على البعير وإن الأثر يدل على المسير، وبهذا فهم يرون المستقبل بطريقتهم، مستقبلا متخيلا افتراضيا، وفق ماض موثق بأحداث ومواقف، يمتد في المكان ويتواصل مع الزمان، مبتكرين جديدا يسبق تخيل المتلقي، عودا إلى أن ما قد يحدث لن يكون على صورة ما كان سابقا، للخروج من قضية أن تطابق المستقبل مع الماضي يشكل تقييدا للفكرة، ولئلا يؤخذ على المبدع افتقار في مخيلته المعاصرة، ليؤكد المبدعون بهذا التحرك بمخيلتهم الوصول إلى غاية الانفصال عن حدود ضيقة إلى رؤية أبعد وأنضج تبرز قدرة طاقة كل منهم لاجتياز تلك المسافة نحو زمن قادم وجد المبدعون بعضا من معالمه.. وقد نرى اختلافا في الصور الذهنية التي تتبلور وتظهر على الواقع، بأي من سبل التعبير ومنها الفنون التشكيلية بأساليبها السابقة، أو ما ينتج عن ثقافة ووعي الفنان المعاصر، منها ما يشوبه التفاؤل الدافع للبحث والتجريب والمغامرة وتأكيد المشهد، ومنها ما يحمل إشارات التشاؤم التي يميل بعض أصحابها إلى فكرة أو توجه مغلق، لأنهم يرون الواقع بمنظار مختلف يبني على الغالب والمغلوب، وهذه آراء تحتمل الاختلاف، يرى المبدعون أن ما يشاهد من رموز تلك الصفة أو الرؤية، حتى التشاؤمية منها، تحمل معلومات واقعية ثابتة الأدلة، تتسبب في جعلهم يعيشون التوجس وأخذ الاحتياطات، تجاوزها الكثير منهم هذه المخاوف بالعمل المثمر والجاد والإرادة القوية حلوها إلى عمل إيجابي. ومع هذا وذاك لا يمكن الاعتماد على الإبداع المتخيل المستقبلي، بقدر ما يرى فيه تحركا حرا، ديناميكيا يبعث في المبدع روح البحث، والانطلاق نحو مسافات أرحب، إلى عالم لم يسبقه إليه أحد، بعيدا عن واقع مكرر وأحداث لم يعد الإنسان قادرا على الخروج منها.
) فنانون تحولت خيالتهم إلى حقيقة. هذا الأسبوع ومن خلال حقيبتنا التشكيلية استطعنا أن نلتقط بعضا من الأعمال التشكيلية التي نتلمس فيها استباق مبدعيها للزمن .. البعض منها استلهم من إحداث تفاعل معها الفنان وقت تنفيذها لكنها أيضا تكشف إمكانية استباق الفنان لأحداث ستأتي تباعا في أزمنة أخرى، نجزم أن هذا الاستباق لم يدخل في علم الغيب لكنها قدرات وضعها الخالق فيهم بتفرد وخصوصية قد لا تتحقق للبعض الآخر بأن يستنبطوا من حاضرهم توقع ما قد يحدث مستقبلا، كما أن بالإمكان عدم توقعهم أن ما قاموا به سيكون يوما مستبقا لحدث لاحق. من هؤلاء ما اخترناه لكم كأمثلة لا تخلو من توقع سابق لأوانه، من هؤلاء الفنان الياباني “كاتسوشيكا هوكوساي “والفنان السعودي إبراهيم الزيكان والفنان الكويتي عبد الله القصار والفنان العراقي جواد سليم. دعونا نتوقف ونطلع على ما أبدعوه من لوحات تبعث فينا التعجب والإعجاب ومحاولة التفسير بربط أطراف اللحظات التي نفذت فيها الأعمال بما كان يشعر به الفنان خلال استجماع الفكرة وبلورتها بين نتاج مختزل بصري وبين ترقب يبعث حالة من الإلهام نحو القادم بحالة لا دخل للفنان فيها بقدر ما هي هبة من خالقه جعلت منه مبدعا متفرد.
) موجة كاناغاوا “ هوكوساي و” فنان ياباني عالمي لشهرة قل أن نسمع عنه في زحمة الإعلام الآخر الذي دفع بفنانين أوروبيين وأغفل البقية أمثال هؤلاء لنقف عند بيت القصيد لموضوعنا هذا الأسبوع وهو استباق الزمن وتوقعات الفنانين التي قد لا يكون مخططا لها أو تحتمل التنبؤ بقدر ما تمثل الصدفة الأقرب إلى الحقيقة فقد رسم موجة سماها (الموجة الكبيرة) عام 1829م وكأنه يستبق لحظات وقوع موجة تسونامي التي وقعت على شاطىء سينداي في منطقة مياجي شمال شرق اليابان مع بداية هذا العام الميلادي وتسببت في اظرار جسيمة مادية وبشرية . هذا الفنان مر بأحداث كثيرة على مدى 89 سنة (1760- 1849)، كان فيها مبدعاً لا يتوقف عن إنتاج اللوحات ولا يستقر في مكان .. ومن أقواله قبل موته ( أتمنى أن أعيش سنوات أخرى إضافية كي يتقن أعماله الفنية أكثر). ما يدل على تواضعه وعدم قناعته بما قدمه رغم أنه أسس مدرسة في الرسم الياباني والصيني (أتمنى أن أعيش سنوات أخرى إضافية كي يتقن أعماله الفنية أكثر).
) نصب الحرية في بغداد حكاية لا تنتهي نصب الحرية المقام في ساحة التحرير ببغداد للفنان جواد سليم الذي نفذه عام 1959م بمشاركة المعماري رفعت الجادرجي والنحات محمد غني حكمت، شاهد حاضر ومشارك برؤية مستقبلية استشعرها الفنان من أحداث ومواقف وآمال وطموحات، صمد هذا النصب في وسط بغداد دون أن تمسه قذيفة أو يتعرض للهدم او التخريف ما يعني قرب معانيه ورموزه إلى قلوب الناس والأجيال التي كانت تمر من حوله أو تستظل بظل الواجهة التي حملته باعتزاز، هذا النصب يحمل رموزا تتوالى من واقع إلى آخر وكأنها تحكي حكاية العراق الى يومنا هذا وصولا إلى آخر جزء منه الذي يشير إلى الأمل المنشود لمستقبل العراق وهو الاستقرار والنماء وإعادة حضارته العظيمة أبدعه الفنان دون علمه أن ما فيه من رموز ستكون طبقا لما هو الآن يحدث في العراق من بحث عن الحرية وسبل الاتفاق ولم الشمل.
) الزيكان وحالة الشعوب. لم يكن الفنان الفنان السعودي إبراهيم الزيكان يتوقع أن تعبر لوحته التي نفذها وقت الحرب الأهلية اللبنانية وتظهر شجرة على شاكلة رجل تمثل الوطن ومن فيه يمزق نفسه بنفسه، أن يكون تعبيرها بشكل أكبر وأشمل للاحداث الحالية في بعض بلدان الوطن العربي فتمزيق الوطن من أهله أكثر ألما من الاعتداء عليه من عدو معروف يستحق المقاومة والدفاع.
) القصار وحلمه الذي تحقق.
أما لوحة عبد الله القصار فكان لي معه يرحمه الله حديثا قبل أحداث الكويت عند حضوري معرض الكويت التشكيلي في إحدى دوراته، وصف لي يرحمه الله حلما أيقض مضجعة وأن هناك وحوشا تحيط بالكويت، لم يكن وصفه للحلم مرضيا ومقنعا للحضور الذين حملوه محمل الحكايات الطارئة، هذا الهاجس دفعه لرسم لوحة (الحلم) التي تشكل جسدا نائما بأمان بينما تحيط به وحوش تهم بنهشه. هذه الإطلالة الموجزة عن بعض الإبداعات التي تؤكد قدرة المبدعين بما وهبوا بحدس يمكن من خلالها تشكيل فكرة مستقاة من أحداث تمر بالفنان يستشرف بها أحداث في قادم الأيام.