دائماً أتساءل في كل مرة أشعر فيها أن آلات العالم تدفعني وتحرضني للقيام بفعل معين.. ما هو المهم؟ وما هو الجوهري؟ ومن يملك الحق في ترتيب سلّم الأولويات؟ ومن يحدد ويرسم مسارات الاستهلاك؟
لكن عالمنا المتسارع والمجنون لا يلتفت أبداً لمثل هذا الخطاب ولا يعطيه الفرصة إطلاقاً كي يعيد تفكيك الأنماط الاقتصادية والاجتماعية التي تمّ خلقها وتوجيهها على مدى فترات طويلة من الزمن لكي تصبح على ما هي عليه الآن.
عالمنا يضيق ذرعاً بأسئلة النهاية والوجهة الأخيرة ويراها تطفلاً وعبثاً لا طائل منه ولا يتردد أبداً في دهس أولئك الواقفين على أرصفة الشك والتساؤل، فليس لديه من الوقت ما يكفي للمراجعة أو للمكاشفة الحقيقية، فهو منشغل ببناء المزيد وتحطيم المزيد، منشغل في البحث عن الإنسان الأخير وإيجاده وجمعه ثمّ استنساخه أخيراً بأعداد مهولة تضمن مصالح محرّكيه. وهذا الإنسان الأخير هو ليس إنسان نيتشه الخارق أو السوبرمان - كما يُطلِق عليه-، بل هو الإنسان الذي صنع الآلة ذات مرة ثم تركها لتصنعه فيما بعد ولم تتوقف عن صنعه حتى الآن. هو إنسان الأزياء الموحدة والبروتوكولات الصارمة، القادر على تحقيق أعلى مستويات الكفاءة والدقة المطلوبة منه، والذي خضع لعمليات مستمرة وطويلة من الصقل والتهيئة داخل قلاع العالم المادي الجديد، ليخرج إلينا مشكلاً مع ملايين النسخ المطابقة له حلقة مغلقة حول الطبيعة والمادة، يصبح كل ما هو خارجها هامشي وعرضي لا يستحق أدنى اهتمام. الإنسان الذي يتصل مع «النظام» في دوائر شديدة التعقيد لا تكاد تجد لها مدخلاً أو مخرجاً، فهو يصنع النظام ويُصنع في النظام، فيبدو الأمر شبيهاً بمعضلة الدجاجة والبيضة ومن منهما أتى أولاً.
وإذا حاولنا الاقتراب أكثر للتعرف على ديناميكية هذا النظام سنجد أنه يحكم قبضته على كل ما يمكن استهلاكه والاستفادة منه، ويتراجع سؤال الأخلاق والعدالة لصالح سؤال القانون، وتصبح الأرقام ذات أولوية عليا ومطلقة، ويصبح كل شيء قابلاً للقياس والتثمين والبيع فيما بعد إن أمكن ذلك. وعندما نستعير مجهر داروين للنظر إلى حقيقة الأمر سنجد أن معياره الصارخ «البقاء للأصلح» بإمكانه أن يفسر الكثير من الظواهر التي تحدث في هذه المنطقة الملغزة، فكل ما واجهه الإنسان من تقلبات وهزّات منذ الثورة الصناعية التي بدأت في إنجلترا وعمت أوروبا والعالم بعد ذلك وحتى اليوم، يوقظ في الإنسان غريزة البقاء، ويجعله يطور أسلحته وأدواته في سبيل النجاة ويتكيف بسرعة مذهلة مع كل ما يحدث من متغيرات كي لا يسحق بأقدام الحشود المسعورة التي تحرّك عجلات العالم باتجاه المجهول.
لكن إنساناً آخراً أقل صخباً ما يزال يراقب من بعيد كل هذا الجنون، ويحاول بكل ما يستطيع أن يبقي نار روحه متقدة، ويجمع لها حطب الفنون والآداب والمعارف وكل ما يمكّنه من احتمال برد الحضارة الماديّة القارس. وهنا أجدني مضطراً لأن أسأل: هل يجعل هذا منه إنساناً بدائياً؟ وهل وجوده في هذا الوقت من عمر البشرية يشكل انتكاسة وعودة للوراء؟
لا أظن أبداً أننا سنستطيع التخلص من ازدواجيّة ما نؤمن به وما نضطر لفعله للحفاظ على بقائنا، ما لم نجب على هذه الأسئلة أولاً.
-