ليست صورة الحمار في الثقافة الإنسانية بنمط واحد، بل هي بنمطين متناقضين ومتضادين: فالصورة السلبية للحمار التي تمهره بالغباء والبلادة والخرَق والكسل واللامبالاة والذل والاستسلام والضعف والجشع والاهتمام بملء البطن والشهوانية والعناد وقبح الشكل ونكارة الصوت والصلة بالشر هي المقابل لصورة أخرى تقرنه بالحكمة والنبوة والخيرية وتمدحه بالصبر واحتمال المكاره والصدق والألفة والصداقة والطيبة والمثالية وقلة المؤونة والتواضع وإنكار الذات والنشاط والابتهاج بالطبيعة... إلخ. وليس هناك من جدوى في القصد إلى البحث عن حقيقة، أو واقع ينتج عنه تأليف التناقض وتوحيد التضاد، ونزع التوتر الذي يفرضه انشطار المعنى وانشداده بين قطبين. لأن الصورتين المتناقضتين والمتضادتين ناتج الواقع نفسه أو الحقيقة ذاتها التي تمثِّلها الكينونة الثقافية الاجتماعية التي لن تبرأ من التناقض والتضاد إلا إذا برئت من طبيعتها التي لا طبيعة لها سواها.
وهذا يعني أن الثقافة هي من صَنَع هذا التناقض والتضاد في صورة الحمار وبها. فالحمار الموصوف بالحكمة هو نفسه الموصوف بالغباء، والموصوف بالصبر هو الموصوف بالجشع... ولا يبدو أن المعنى المقصود من وراء ذلك هو الدلالة على اجتماع الحكمة والحماقة، والذكاء والخَرَق، والذل والشجاعة... وهكذا في الحمار، لأن من شأن الوعي باجتماع الصفتين المتناقضتين في الشيء أن يحيلهما إلى دلالة أخرى ترفع عنهما التناقض. ولذلك فإننا أمام نمطين متضادين من الوصف لا أمام موصوف بصفتين متضادتين، ونتيجة ذلك مبرَّرة وهي إحالة الموضوع محل الوصف إلى مجاز تستحيل فيه الدلالة إلى تمثيل الوضع الإنساني في سلوكه وعلاقاته وقيم اجتماعه وتفرده، وهو مجاز لا تبرأ فيه دلالة الحمار من اصطحاب متعلقات سياقه وأحواله التي تتيح لمقامات التلفظ أن تولِّد منه مجازات مختلفة لا تخلص للدلالة عليه وإنما للدلالة به.
وعلى رغم ذلك فلا أحد يجادل في أن معظم الصورة التي تدل على الحمار وتدل به تذهب به إلى منزلة متدنية في الثقافة الإنسانية. ويبدو أن أحداً لن يبتسم لك بامتنان إذا ما وصفته بأنه حمار، بل إنه في الغالب سيبادلك الشتم والسباب والانتقاص لأنه لا يفهم من مدلول الحمار معنى وراء ذلك. وقد جرى التعامل مع الحمار في المجتمعات، منذ القديم، بقسوة وصرامة مقرونة بالمهانة والاحتقار، وفي الكشاف للزمخشري: «والحمار مَثَل في الذم البليغ والشتيمة وكذلك نهاقه، ومن استفحاشهم لذكره مجرداً وتفاديهم من اسمه أنهم يكنون عنه ويرغبون عن التصريح به، فيقولون: الطويل الأذنين كما يكنى عن الأشياء المستقذرة، وقد عد في مساوئ الآداب أن يجري ذكر الحمار في مجلس قوم من أولي المروءة، ومن العرب من لا يركب الحمار استنكافاً وإن بلغت منه الرجلة» (3/234).
ولا تنجلي صورة الحمار هذه إلا في مقابل صورة غيره من الحيوانات الأليفة التي تخدم الإنسان وتشاركه جهد الحياة وكفاحها المضني، فليس الحمار في منزلة الحصان أو البغل أو الجمل، وهي وسائل النقل والرحلة وحمل الأثقال في المجتمعات القديمة. ولهذا تمثل العلاقة بينه وبينها علاقة أدنى بأعلى وتحت وفوق، وهي علاقة تراتب يصبح تمثيل الحمار بموجبها في موقع التخلف والسفلية والقلة والضعف وسائر ما ينسب إليه من صفات ممقوتة. لكن هذه العلاقة تحيل على التراتب الهرمي في تكوين المجتمعات الإنسانية منذ القدم، لا إلى العلاقة الموجودة في الطبيعة بين الحمار وغيره من الحيوانات، إنها -إذن- علاقة منتوجَة ثقافياً. ولذلك كان لكل كائن في الثقافة قيمة متدرجة في سلم ترتيبه على هرمية المجتمع، فالحصان -مثلاً- كائن قوة وحرية وجمال وغنى، وتربيته واستخدامه مؤشر على الثروة والمنزلة الاجتماعية، وهذا مؤدى تقويم وقيمة في منظور الثقافة ومطمح رغبة وترام مستمر إليها في الوعي الإنساني، ومن شأن ذلك أن يصنع تمييزاً ثقافياً مع الحمار هو التمييز ذاته بين أشراف الواقع الاجتماعي وعامته، وأغنيائه وفقرائه.
إن الشعر العربي ليطفح بالتمييز ضد الحمار وإنكار كل جميل له، وذلك بإحالته إلى دال من دوال التصوير الهجائي للأعداء والخصوم وأنداد التنافس والتحدي. فأبو جرير «خلف أتانه يتقمل» هو مؤدى الحط من منزلة الخصم عند الفرزدق، وهي صورة تقابل ضدياً فخره الذي ينبع من انتمائه الأرستقراطي ويحيل عليه. أما العَيْر الذي «رأى أسدَ العرين فهاله، حتى إذا ولَّى تولَّى ينهق» فهي صورة خصيم أبي تمام في مقابل أسديته، وهي صورة تَنْسِل من تمثيل الحمار للجبن، وتتقارن مع الغباء الذي رأى الشريف الرضي أنه سمة مهجوِّيه في مسافة المفاضلة لديه التي ينطقها قوله: «وأذكاهم إذا نطقوا حمار». وقد كان الحمار -في هذا الصدد- مثال الذل والهوان عند المتلمس «إن الهوان حمار القوم يعرفه، والحر ينكره والرسلة الأجد». وحمار المتلمس هذا أقل اشتهاراً -ربما- من عيْر المتنبي في المشابهة التي عقدها بينه وبين الوتد ومن يقيم على «ذل يُراد به». وهو «عيْر تعاقبه السباع مفرّس» تتجسد به صورة الأعداء المهزوم جمعهم لدى العباس بن مرداس.
وهذا هو المقابل تماماً لاقتران صورة البطولة بالفرس والخيل في استحالتها إلى دال من دوال المديح والفخر، وما يتولد عنهما من معان في مدارات الشجاعة والذكاء والمجد والثروة والسيادة والتسلط والحرية. ولدى ابن المعتز صورة للعزة في منازل قوم، لأن «الخيل تصهل على أبوابها، ويكثر الناس على حجابها». وهو المعنى نفسه الذي يمتاز به الحصان عن الحمار في إلياذة هوميروس من خلال تشبيهين يمثل أحدهما بارس أمير طروادة مقارناً بالحصان الذي تحرر من إسطبله وأخذ يعدو في سهل مفتوح فخوراً وقوياً بعُرْف متدفق ورأس مرفوع عالياً. وفي الآخر، البطل الإغريقي أجاكس، في قتاله ضد الطرواديين، مقارناً بحمار ذهب إلى حقل ولن يرفع رأسه من الانهماك في أكل الحب على الرغم من أنه يُضْرَب بالعصي.
وتلتقي هذه الصورة السلبية للحمار مع صورته التي سكنتها الخرافات التي تنطق الحيوان. ففي كليلة ودمنة خرافتان يظهر الحمار في الأولى ضحية للسخرَية والحيلة والغباء والشهوانية التي تعمي البصر والبصيرة، وهي بعنوان «مَثَلُ الأسد وابن آوى والحمار». وخلاصتها أن الأسد أصيب بالجرب وكان ابن آوى يعيش معه على فضول صيده، فسأله ابن آوى عن قلة صيده، فأجابه بأنه الجرب، ولا شفاء له إلا أذني حمار وقلبه. فوعده ابن آوى في أن يأتيه بحمار. فذهب إلى حمار قصّار يحمل عليه الملابس التي يغسلها. وسأله عن سبب هزاله ودَبَره، فقال الحمار إنه من القصار، فهو يسيء علفي ويديم إتعابي ويثقل ظهري. فحرضه ابن آوى على الفرار إلى مكان منعزل خصيب المرعى وبه أتان. وحين جاء إلى هذا المكان قفز عليه الأسد، لكن الحمار أفلت من بين مخالبه وهرب. وتذهب الخرافة -بعد ذلك- إلى عودة ابن آوى للاحتيال على الحمار في أن يعود، وأن من حاول الإمساك به إنما هي الأتان، فيصدِّق ويعود ويقع فريسة للأسد. ويعيد ابن آوى الاحتيال على الأسد، فيستغل غيابه للاغتسال ويأكل أذني الحمار وقلبه، وحين يعود الأسد فيسأل عنهما، ينفي ابن آوى أن يكون للحمار قلب وأذنان، قائلاً: «لو كان له قلب وأذنان لم يرجع إليك الثانيةَ بعد أن صنعت به ما صنعت».
أما الخرافة الثانية فتتحدث عن حمار التمس قرنين فذهبت أذناه، وفيها يرى الحمار أيّلاً كان صاحبه يسوقه إلى النهر ليشرب، فتُعْجِب الحمار كثرةُ قرون الأيل، ويفكر في طريقة للإفادة منها، وهي أن يهرب إليه فيلازمه ويخدمه ويطيعه، لكي يكرمه بهِبَة من سلاحه. وفعلاً اقتلع الحمار مقوده في الليل وذهب إلى الدار التي سكنها الأيِّل، واختبأ في زاوية الحائط، وحين أخذ الرجل أيِّله في الصباح إلى النهر مشى الحمار خلفهما، وفزع الأيِّل من الحمار، فقام صاحبه بضرب الحمار بالعصا، وعندها انقض الحمار على الرجل ليخلي بينه وبين الأيِّل. لكن الرجل أراد أن يترك فيه علامة من أجل أن يطالب صاحبه بثأره منه، فقام بقطع أذنيه. وهنا نرى حماقة الحمار ممثلة في العلاقة بين فكره وما يرغب فيه، وهي حماقة تقف الخرافة لها بصرامة حين تنتهي بقطع أذني الحمار اللتين كانتا موضوع رغبته في أن يستبدل بهما قرنين.
ولا تنفصل خرافات كليلة ودمنة، في هذا المعنى، عن خرافات أيسوب الإغريقية (القرن السادس قبل الميلاد) التي تتضمن 20 خرافة عن الحمار، ولا عن خرافات الفرنسي لافونتين، ومن أمثلتها «الحمار حامل الملح والحمار حامل الإسفنج» في ترجمة محمد عثمان جلال لها في كتابه: «العيوان اليواقظ في الأمثال والمواعظ» وتفاعلات ذلك عند أحمد شوقي -مثلاً- الذي تضمنت حكاياته المنشورة في الجزء 4 من الشوقيات، 5 خرافات عن الحمار. وأولها يحكي اجتماع الحيوانات لتهنئة الأسد بأول أنجاله، وقيام الفيل خطيباً، تلاه الثعلب ثم القرد وقد قالوا ما يليق. وحين تكلم الحمار أزعج بصوته شبل الأسد المولود فمات في مهده، فحملوا على الحمار حتى قتلوه. وفي الثانية يختار الأسد الحمار وزيراً له فيبدأ الدمار في مملكته، وذلك بزوال هيبته في رعيته. أما الثالثة فتحكي سقوط الحمار من السفينة ليلاً وبكاء رفاقه عليه لكن موجة تعيده في الصباح إليهم قائلة إنه لا يُهْضَم. وفي الخرافة الرابعة يفر الجمل والحمار بحثاً عن الحرية، لكن الحمار يصر على العودة إلى الدار لأنه لا يستطيع فراق مقوده. والخامسة عن شكوى الحمار وسؤاله للثعلب الذي يحيل إجابته إلى سخرية من غباء الحمار.
وليس من علاقة تطابق ضرورية بين الحمار الواقعي والحمار الثقافي الذي يظهر في هذه الخرافات أو في الصور الشعرية من قَبْلها. فالحمار بصورته الثقافية السلبية تلك، يمثل مجازياً حمق الإنسان وهوانه وعبوديته وضعفه وجشعه وطغيان شهواته وكسله وأنانيته وجلافة سلوكه ومجافاته للجميل... إلخ. ويمكن أن يحاجج المرء الثقافة باستواء حيوانات كثيرة في تمثيل تلك المجازات، فهل كان رسن الحمار أو لجامه أو مربطه في الوتد علاقة خصوص معه لا تتعداه إلى الجمل أو الحصان؟! وهل هو أكثر حمقاً وبلادة وشهوانية وتعرضاً للمهانة والقسوة... إلخ من غيره من البهائم؟ هل كان تمثيل الحمار الذي تدل عليه مجازيته ورمزيته الكثيفة في الثقافة ناتج مقارنة بيولوجية وسيكولوجية ونحوهما مع غيره؟. إذن، لماذا كان لمعناه الثقافي بالصفة الساخرة منه والمشوهة له والناقدة، هذا الانتشار وتلك الديمومة؟
إن الإجابة على هذه الأسئلة لن تصل بنا إلى ما يقنع وينصف، وعلى ذلك فلن تقف تمثيلات الحمار ثقافياً عن الحط منه وتوظيفه في دلالات الذم والشتيمة والعيب والسخرية والنقد، وسيبقى الحمار (حماراً)! لكننا سنهتدي للإجابة -فيما أحسب- إذا ما رفعنا أعيننا عن الحمار المسكين ووسَّعنا محيط الرؤية باتجاه الطبقات المنخفضة في التراتب الاجتماعي التي تقترن بالحمار وتكسبه دلالته السلبية، فلا يغدو علامة وجاهة وثروة وسلطان ولا دلالة جمال وحرية!. ومن المؤكد أن قيمة الحقيقة مثل قيمة الثقافة صناعة الأقوى والأغنى، لكن استمرار تمثيل الحمار بهذه المجازات والصور لا يحيل على أغنى أو أقوى بالتعيين وإنما على الثقافة نفسها، الثقافة منذ القديم، التي لا تدع صورة جديدة تلد من العدم وإنما تحيل على ما هو أقدم منها بناء على مبدأ التناص المعهود.
وما يزال للحديث بقية في الأسبوع القادم إن شاء الله.
-