(1)
طائفةٌ من دُعاةِ الحرية المشوقون لها -طمعاً وحُبّاً- تُمارس أيضاً العنف النفسيّ بصورة ساديّة إقصائيّة، ذلك أنّهم يشيرون صراحة أو إيماءةً: بأنّ الآخرين المخالفين لهم -الذين هُم على الحيادِ، الذين هم على العوز، الذين لم ينضمّوا لهم بعد، الذين لا يثقون بطروحات دُعاة الحريّة، الذين لا يفقهون كلامهم، أو الذين لم يسمعوا بهم، الساعين لقوت يومهم، الساعين لشفاء أبنائهم أو أمّهاتهم وآبائهم، الساعين لتسديد ديونهم، الساعين لفيء في الظهيرات العاتيات من شمس الرأسمالية التي لا تغيب- إنّما يرزحون تحت أثقال العبودية، أثقال اللاهث اليوميّ والعبث الوظيفيّ، وأنّهم في جهالةِ المعاش اليوميّ تجرّدوا من رُؤيةِ حقوقهم. أيّ أوهام أعمت هؤلاء المشوقون لحرّيتهم حتّى ازدادوا غلوّاً، فوسوَسَ لهم الوهمُ أنّهم يُبصرون.
إنّ ادّعاءَ مَن يَمتلك الحقيقة بامتلاكه إيّاها على هذا الضرب من العنف والإقصاء، لهو في عَمَهٍ ضلّيل، ما لهُ مِن خَلاقٍ.
(2)
وكذا، أيّ دعوةٍ للتغيير لا تحترم طبيعة الإنسان، بل وحقّهُ المقدّس في الخوف على حياته ومصير عائلته ومصالحه المشروعة، فتغفل في خطابها -جهالة أو دراية- عن استيعاب ومراعاة هذه المزيّة الإنسانيّة أيَّما مُراعاة، إنّما هي دعوةٌ تُمارس الإرهاب بوجهٍ أو آخر. إنّكَ إذا لم تستوعب الإنسان بمخاوفه إنّما أنتَ تسحقه في كينونته التي جُبِلَ عليها، ترمي به في أتُونٍ من العوزِ النفسيِّ، كأنّ يشعر بالعار والنقصان والخذلان، وهو مُضطرّ لتقبّل أذيّة نفسِه لنفسه، وتلك حروب عسيرة. فأيّ عارٍ، وأيّ وَهْمٍ، وهو على صوابٍ في خوفهِ، وأنتَ على ضلالٍ في شجاعتكَ، وفي دعواكَ.
(3)
مَن تابعَ على القنوات الإعلاميّة تهديداتِ مصطفى عبدالجليل رئيس المجلس الانتقالي (هي بن بي: مجلس مجهول)، التهديداتُ التي أباحَ عبرها بدماء وبأموال من يتعامل مع القذافي قبل دخول الثوّار إلى طرابلس العاصمة، لا شكّ أنّه سوف يتساءلُ: أيّ اختلافٍ -ها هنا- في خطابٍ يهدرُ دماءَ المستضعفين بهذه اللامبالاة والإجرام أيضاً، وبين تهديدات أطلقها القذافي وابنه في بداية العصيان المسلح، (ليس لدينا أيّ مؤشّرات أو معلومات مؤكّدة تثبت أنّ العصيان قد بدأ سلميّاً كما حاولت أن تبشّر بعض القنوات الإخباري، بل كلّ المعلومات تشير إلى أن الانتفاضة قد انفجرت بحركة مسلّحة هاجمت الكتيبة الأمنية في مدينة بنغازي المسمّاة:كتيبة الفضيل)، وليس في هذا الرأي دفاعاً عن القذافي، إنّما لرؤية المسألة بطريقة تتوافق مع الوقائع التي يقدّمها الإعلام نفسه، الإعلام الغارق في متاهات أخباره المُتضاربة، أخباره المسمومة، الإعلام الذي أراد أن يكون طرفاً مؤثراً في المعادلة، الذي يقرأ تلك الوقائع بكثير من التزوير استعماء للمشاهدين، استمراءً واستمراراً للعبة فرعون: (واستخفّ قومه فأطاعوه)، إذن؛ جوهرُ التهديدِ واحد مُتشابهٌ، أنّه دمويٌّ في خطاب الرجلين: (المعتوه الأصل، والمشبوه التقليد)، وربّما من الاختلافات: ما نرصدهُ في نبرة الصوت مثلاً: بين صراخ القذافي وبين هدوء (الثائر) مصطفى عبد الجليل، ورضوخه للجماعات اليمينيّة المتطرّفة التي تسيطر على جزء من الميدان، المتفضّلة على المجلس فيما هو فيه اليومَ عبر نجاحها في معاركها، ولها الجرم في كثير من جرائم الحرب التي لا نعلم تفاصيلها، ولا نعلم هل سوف يكشفها الثوّار، أو تكشفها السلطة المدنية في ليبيا الجديدة -إن وجدت- وأيّ حرية وتغيير يبشّرون بهما في هذا العمه والعماء الجسيم.!
ما علاقة المجلس بالشعب؟ كيف سوف يتحمّل الشعب فاتورة تحالفات عسكرية واقتصادية وسياسيّة بين المجلس ودول حلف الناتو؟ التحالفات التي أدّت إلى دكّ ليبيا ولم تفرّق بين عسكريّ ومدنيٍّ على حدٍّ سواء. وثمة اختلاف آخر نرصده -بين الرجلين- في مرجعية التهديد، إذ كان القذافي يتّكئُ على القوانين القديمة التي تلاها عبر خطابه الشهير (الجرذاني) بإعدام المنشقين المسلحين، (وتلك قوانين معمول بها في كثير من دول العالم)، وبين خطاب مصطفى عبدالجليل الإسلاموي، الذي أباح الدماء بلغة فقهاء الظلام، وهو المتحالف مع حركات إسلاميّة متطرّفة تُتّهم اليوم أنّها وراء تصفيات وارتكاب مجازر حرب، وهي متّهمة بمقتل قائد الثوّار عبدالفتاح يونس والتمثيل بجثّته؛ هكذا إجرام وخطاب انتقاميّ لم نألفه في خطابات المنتفضين الذي يطالبون بتغيير أنظمتها العسكرية الدموية.
يُخشى على ليبيا اليوم مخاطر (أفغنةِ الصراع) فنموذج اقتتال الثوّار الأفغان بعد انتصاراتهم، وصراعاتهم الدموية على السلطة، لا يغيب عن هؤلاء الذي حرّروا الشعب من طاغوته المتعطشون للسلطة إلى حدّ ستكشفه الأيّام، الذين حاربوا تحتَ ظُلُلٍ من طائراتٍ غربيّة عينها على نفطِ البلادِ، ولم تكن يوماً لتَلْتَفِتْ لحقوقِ العباد.
(4)
حينَ يستخدمُ وزراء خارجية أمريكا المتعاقبين، ومتحدّثو البيت الأبيض، في كلّ تصريحاتهم المتكرّرة أثناء وإزاء أيّ عُنفٍ إسرائيليٍّ مُتكرّر ضدّ الفلسطينين واللبنانين، -إن كان في مجازر قانا، أو جنين، أو غزّة والكثير من الاغتيالات السياسية وغيرها من أوجه العنف- فإنّ الجملة الأمريكيّة الشهيرة التي تتصدّر تصريحاتهم دائماً: (أمريكا تدعو الإسرائيليين لعدم الإفراط في استخدام القوّة)، المشكلة كلّها تتخلّص -إن كان ثمّة مشكلة- في (الإفراط).
بينما كنّا نعترض عليها، وكان من بيننا كُتّاب ورؤوساء تحرير كبار، كتبوا من وراء نقد العبارة العديد من مقالاتهم، يعترضون عليها، يسخرون من أمريكا، ومن تصريحات وزراء خارجيتها ومبعوثيها.
واليوم -يا لله- اليوم تحديداً، وعلى مذبحِ سوريّة العظيمة، نقرأ لكتّاب عرب وروؤساء تحرير حملوا الهمّ العرُوبيّ والفلسطينيّ على عاتقهم سنين عددا، كانوا يدافعون عن حرّية رأيهم واستقلالهم، ها هم يقعون اليوم في شرك الجملة الأمريكية البغيضة، لكنّه من السحر حتّى استخدمها أولئك الذين يرون المشهد السوريّ كاملاً، بيْدَ أنّهم يمتنعون عن تقديم شهاداتهم، الذين لأمرٍ تحالفيّ مع النظام السوريّ بات أكثر وضوحاً من أي وقتٍ مضى، يريدون أنْ تحملَ الضحيّة ذنبَهَا، أنْ تُقدّم أسفَهَا لقاتلهِا، أنْ تَعدنا أمام القنوات أنّها لن تكون ضحيّة بعد اليوم. ها نحن نقرأ العبارة ذاتها: (النظام السوري أفرط في استخدام القوّة)، أو مثلاً: (وصل عدد الضحايا إلى حدّ غير مقبول)، يا لها من عبارات مشكوك بها، ضِلّيلة، آثمة، تبقى في خانة الموافقة الضمنية على ما يحدث، وكلّ ما تفعله إيحاءً أنّها لا تصطفّ مع القاتل، بيد أنّها حتماً خانتِ الضحيّة.
(5)
المفارقةُ، أنّ الربيعَ كلمةٌ ذات مدلولات عديدة عند العرب القدماء لا تخلو من الخريف نفسه، ففي اللسان: (الربيع الأوّل: هو عند العامة خريف)، واليوم تتعاضدُ غيماتٌ غير ماطراتٍ فوق مصطلح تشيكوسلوفكي (ربيع براغ)، تمّ استيراده على ديدنِ الأعراب في سنوات العجاف الثقافي، إذْ تراهم على عجلٍ يستَوْرِدُونَ كُلّ شيءٍ ولا يَرِدُونَ شيئاً، حتّى الكلمات والمصطلحات وهي نعمتُهُم الكبرى وحضارتُهم الوحيدةُ، فنعتوا انتفاضات الشعوب العربية السلميّة والمُسلحة: (بالربيع العربي)، وهم حتماً لا يقصدون (الربيع) من رَبْعٍ من الناس تجمّعوا في الساحات كما هي مدلالوت الرَّبع، ولا يرمون إلى (الرّبع) بمعنى العدد الغفير، وإن توافقت مصادفة تلك المعاني العديدة لكلمة ربيع وربع مع الحالة الميدانية، إنّما مقصدهم الحالة التغييرية التي يوحي بها المصطلح وفق دلالتها الشعبية، بينما يخالفها المدلول التاريخي الإصلاحيّ للمصطلح في بلده الأُم؛ وفي ذلك خطأ توصيفيّ وتاريخيّ..
فالمصطلح التشيكوسلوفكي وفق بداياتها التاريخيِّة يُخالفُ مسارح الأحداث في البلاد العربية، فالدلالة لا تتوافق نهائياً ولا تتطابق مع مجريات وأحداث ربيع براغ سنة 1968 إذْ شرعَ الرأسُ في براغ، بأعلى سُلطاته بإصلاحٍ جذريّ في مفاهيم الحكم، شاطباً عهد الوحدانيّة الحزبيّة، مُرَحّباً بالتعدّدية، عبر سلسلة من القرارات والاجتماعات في مشروعٍ سياسيٍّ إصلاحيٍّ غايتُهُ أَنْ يَنْقُلَ الشيوعيّة السياسيّة المنغلقة إلى الديمقرطيّة المنفرجة في بادرة انفرادية انفصالية عن المعسكر الشرقي آنذاك؛ وما تمضي ستّة أشهرٍ من الحركة الإصلاحيّة حتّى تدخّل الجيش السوفيتي إلى براغ وأطاحَ بالتغييرات الإصلاحيّة.
بيدَ أنّ الساحات العصيّة والعاصية اليوم، هي المشوقة للتغيير، وإِنْ ازداد الضبابُ واشتدّت حُلكة الغيبِ إلاَّ أنَّها قَدْ عزمت النوايا فطوقُ للحريّة إنْ مسّ الجماهير، فإيهِ مَن يقف أمام الطوفان الهادر؛ كذا يختلفُ المشهد اليوم ويعاكس المعنى التاريخيّ الذي يسوقه المصطلح، دأبنا نستوردُ مصطلحات، وما تدري نفس ما جلبتْ، (فربيعُ براغ) أينعَ شقائق نعمانه من رأس القمّة حتّى قضى عليه القطبُ السوفيتي، بدأ بمشروع إصلاحات وليس انتفاضات من قاع الهرم لا تملك مشروعاً إلاّ الإطاحة برأس الهرم؛ وأيّاً يَكُن، إنّها رؤوسٌ هَرِمَتْ طغياناً
-
+
جدة
Yaser.hejazi@gmail.com