توطئة:
تحاول هذه المقالة مقاربة « استفتاءات المنهل » في إرهاصاتها الأولى في فكر المؤسس/الأنصاري، وكما تجلت فيما بعد ضمن أطروحات مجلته « المنهل » من خلال منظورين:
الأول: خاص, يحاول فحص محتوى عينة من هذه الاستفتاءات؛بتحديد مكوناتها واستجلاء أبعادها.
والثاني: عام, ينظر إليها إجمالاً من حيث الشكل والمضمون، ومن حيث إطارها الكمي والنوعي.
كما تحاول المقالة تسجيل بعض الملاحظات العامة التي انتهت إليها، من خلال استطلاع عناوين ومضامين بعض هذه الاستفتاءات, وتعرض إلى « قراءة تحليلية » لإحداها.
) قد يكون مما تردَّد وتواتر كثيراً - في سياق ذكر مجلة المنهل- الحديث عن القيمة المعرفية الكبيرة التي شكَّلتها هذه المجلة، والدور الذي تصدَّت له ولعبته في الساحة الثقافية محلياً وعربياً. وقد لا نضيف جديداً إذا ماقلنا: إنه لم تحظ دورية أدبية أو ثقافية سعودية قط، بما حظيت به المنهل، من شهرة في فضائها العربي، واحتضانها لأقلام بارزة في مجال الأدب العربي، من أقطار شتَّى، واتجاهات متعددة خلال فترة طويلة من الزمن.
فتقليب أي من أوراق أعدادها، أو مجلداتها، يقف بنظر القارئ على أسماء أولئك الرموز المجيدين، والأدباء المتميزين في حضورهم وإنجازاتهم. ومن يطالع كشَّاف المجلة (1) يلمس كذلك ميزةً لا أعتقد أنه يشاركها فيها غيرها؛ وهي اشتمالها على وفرة نوعية من الكتابة والكاتبين في مختلف العلوم الفنون والآداب؛ بما فيها العلوم الإنسانية النظرية، والمعارف التطبيقية والتجريبية البحتة، بكل ما يمكن أن تنطوي عليه هذه المجالات المعرفية من رؤى وموضوعات وأفكار.
ومنزعٌ إلى الشمول على هذا الوصف، لم يفته أن يجعل من أبواب المجلة: باب « الاستفتاء »، ترسيخاً لقيمة الحوار النظري، ووفاء لما يحرص عليه المؤسِّس من تنوع في المنهل، ورغبةً منه في استطلاع الأفكار والآراء حول موضوع معين, تتعدد الرؤى حوله وتختلف، أو قد تتفق الآراء على توجيهه إلى هذه الوجهة أو تلك.
) وقضية «الاستفتاءات» في فكر عبد القدوس الأنصاري، لا تتجلَّى فقط بما اتخذته من مسار تطبيقي في المنهل، بل كانت تشغله منذ وقت مبكر، وفي مستوى آخر ومسار مختلف، فهو يعدُّها بداية الولوج إلى حظيرة الأدب الحديث، حيث يقول: «وقد كان من بين اتجاهنا إلى حظيرة الأدب الحديث، بادئ ذي بدء سنة 1337هـ، وظهور براعم هذا الاتجاه الأولي، إلى حيز الجماعة، كانت تلك البداية، متمثلة في الاستفتاءات المُقدمة من بعضنا إلى بعض، فقد أصبحنا كتلة لا بأس بها، متجاوبة فيما بينها تروم تكوينه وإنشاءه» (2).
هكذا وعى المؤسس دور الاستفتاءات، في إيجاد صيغة جماعية للتكوين والإنشاء، تقوم على معرفة ما لدى كل فرد من آراء، وما يحمله من أفكار تجاه قضية الأدب الحديث، وإذا كانت محصلة الاستفتاءات مجموعة آراء لجماعة معينة، فإن ذات الصيغة الجماعية التي يُلحُّ عليها المؤسس في حديثه السابق، تنحو إلى إعطاء نتيجة الاستفتاء قطعية القناعة بها من قبل الجماعة, في ألفاظ تحمل هذا المعنى: «اتجاهنا، الجماعة، أصبحنا، نروم»، ولكي يحفظ لنفسه حق البدء بفاتحة هذا المظهر الجديد قال: «وكانت فاتحة هذا المظهر الجديد للأدب،.. أو هذا الطور الجديد تفتح براعم الأدب النثري، خاصة ذلك الاستفتاء الذي قدَّمته للإخوان ونصه: ما هي الطريقة المثلى التي ترونها حضرتكم كافلة بتلقيح أدمغة ناشئتنا بفني التحرير والتحبير، والتي تؤهلهم في القريب العاجل، لأن يكونوا رجال الغد، شعراً ونثراً؟»(3).
فهذه البداية البسيطة والمهمة لفكرة الاستفتاء، التي تروم تحديد «الطريقة المثلى» لـ«تلقيح أدمغة الناشئة..» كانت منطلقاً عزَّز فيما يبدو قناعة المؤسس بمبدأ حق كل فرد بالتعبير عن رأيه، للوصول إلى رؤية معينة تخدم غرض الاستفتاء, والتوافق كذلك على قبول مبدأ الاختلاف في تلك الآراء, وهي وإن اتفقت أو تباينت، فإن ذلك لا يقدح في أصالة الفكرة وجدواها؛ بقدر ما يرسخ من قيمتها.
ومن ثم نحا الأنصاري بالاستفتاءات منحى جديداً، من فتح المجال لمعرفة الأفكار والآراء, إلى التعدد في موضوعاتها واتجاهاتها، واختلاف وتنوع من تُوجَهُ إليهم. ولذلك شروط تحكمه، فالاستفتاء - وفقاً للأنصاري - «يُوجَهُ إلى الشخص أو الأشخاص الذين لهم واسع الإلمام فيما يُستُفْتَون فيه»(4).
وهذا شرط أولي فيمن يُوجَّه إليه الاستفتاء، وثمة هدف آخر لديه يعطي للاستفتاء قيمته وأهميته، فمن يُستَفتَون «منهم المسؤلين الرسميين (فإذا أفتوا) في أمرٍ، أخذ ذلك صبغة رسمية في مقبل الأيام، فَتُلقَى عليهم مسؤلية أدبية، في تنفيذ ما سجَّلوه على أنفسهم من مشروعات وأعمال » (5).
وهو ما يُعطي الاستفتاءات في المنهل، صيغة الإلزام والالتزام، إذا ما تحدَّث مسؤل في مشروع أو أمر,وألزم نفسه به, ولم يلتزم بتنفيذه في المجالات الإدارية والخدمية في أجهزة الدولة ومؤسساتها التي تدخل ضمن اختصاصات ذلك المسؤل, وقد أراد المؤسس لما سمَّاه بـ« فن الاستفتاء » (6)، هذه الصرامة في الشروط والجدية في الالتزام، حتى يكون للاستفتاءات جدواها لدى القارئ، وأهميتها لدى المسؤول.
) وكان أول استفتاء تقدمه المنهل إلى مسؤول في الدولة، ما قدمَّه الأنصاري إلى السيد محمد طاهر الدباغ، عندما كان مديراً للمعارف العامة وكان عنوانه: استفتاء خطير تقوم به المنهل (7). وتمحورت أسئلته على:
أ - بيان الغاية المنشودة من تأسيس مدرسة تحضير البعثات؟ وهل تعتبر مدرسة عالية يفد إليها الطلاب من نواحي البلاد لتؤهلهم للتخصص؟
ب - ما هي الوسائل الأولية التي اتخذتها أو ستتخذها مديرية المعارف الموقرة لمكافحة الأمية؟
ج - هل سيدخل التعليم الصناعي في نظام التعليم العام؟
د - هل يَستحسن المدير العام للمعارف تأليف بعثات أثرية لكشف غوامض الآثار التاريخية في الحجاز..؟ (8).
ووفقاً لهذه الصيغة التساؤلية, يستوعب الاستفتاء جُلَّ القضايا التي تشغل بال المؤسس: أهداف مدرسة تحضير البعثات، وإمكانية استقطابها للطلاب من مختلف أرجاء الوطن، ومكافحة الأمية، والتعليم الصناعي، والآثار. وكان الأنصاري واعياً بالدور التعليمي والتنويري الذي يُعوَّل عليه من خلال قيام هذه المدرسة. وقد عبَّر عن ذلك من خلال الاستفتاء/ الأسئلة بلسان حال الناس حينها. كان ذلك في بدايات تشكل أجهزة الدولة الحديثة ومؤسساتها التنظيمية، وهو أمر تنَّبه له الأنصاري، فكان يروم استيضاح الخطوط العامة للنهج الذي ستقوم عليه تلك المدرسة, من لسان قيِّمها ومسؤلها الأول الدباغ،وفقاً للشروط والغايات التي حددَّها للاستفتاء المُوجَه للمسؤولين الرسميين.
) أما الاستفتاء الثاني: فقد وجهه الأنصاري إلى محمد سرور الصبان، الذي كان يشغل في ذلك الوقت منصب مدير إدارة وزارة المالية، وقد أنشأ شركات وطنية مثل: شركة الصادرات العربية، وشركة التوفير والاقتصاد، وشركة الطباعة والنشر بمكة المكرمة، وكان عنوان الاستفتاء الموجه إليه: « الشركات الوطنية ودورها في البعث الاقتصادي » (9).
وليس اعتباطاً أن يختار المؤسس هاتين الشخصيتين, ليبدأ بهما أول استفتاءات المنهل.
فالأولى:«الدباغ» الذي قام بدور مهم لتأسيس البنية التعليمية في البلاد،فأقام مؤسساتها، وتجشم عناء مواجهة الممانعين لقيامه بهذا الدور، وقد استكمل إتمام مراحله بتأسيس مدرسة تحضير البعثات.
والثانية:«الصبان» فإضافة إلى دوره الأدبي المهم، فقد كان من بناة الاقتصاد الوطني على ركائز وطيدة، تمثلت في إنشاء الشركات الوطنية ذات المجالات الحيوية المتعددة، في وقت مبكر كذلك من مراحل نشأة كيان الدولة السعودية (10). في ظروف لم يكن الأنصاري بعيداً عنها. بل كان واعٍ بحساسياتها من خلال رؤيته الثقافية وموقعه الوظيفي (11).
ووصفه الأول كأديب ومثقف واع, ظهر من خلال إيلائه الجوانب الإدارية والتنموية النهضوية بالبلاد - المتماسة بحياة الناس وواقعهم - مثل ذلك الاهتمام، وتأكد باختياره للمسئُولَين: الدباغ والصبان، لكي «يحملهما المسؤلية الأدبية في سبيل ما سجَّلوه على أنفسهم من مشروعات وأعمال » (12).
فهل أراد المؤسس القيام بدور الرقيب الوطني على سيرورة أداء مؤسسات رسمية وليدة، أم اضطلع بدور المثقف المشغول بقضايا الناس والوطن،وهي في الصميم من كيان الدولة وبنائها ؟أم أراد أن يمنح الاستفتاءات هذه الأهمية والصيغة الإلزامية في إطار مسؤلية أخلاقية يواجه بها المسؤلين..؟ وهي أسئلة مُشرعة للقراءة والتدبر؛لمن يتأمل قيمة انجاز الرجال الثلاثة: الأنصاري والدباغ والصبان.
) أما الاستفتاء الثالث، فكان بعنوان: « هل يخفق الأديب في الحياة..؟ ولماذا ؟ » (13) وبالرغم من اتساع محددات السؤال / الاستفتاء. فهو يستبطن مغزىً فلسفي -أراده منشؤه أم لم يرده - احتل موقعاً ضمنياً في السؤال، وقد أجاب عليه كلٌ من:عبد الحميد عنبر، وأحمد رضا حوحو, ومحمد عمر توفيق.
وقد رأى الأستاذ: عبد الحميد عنبر، أن عنوان الاستفتاء يحكم على الأديب بالإخفاق في الحياة، وذهب إلى أن « مجلة المنهل الغراء، أرادت أن تتفلسف » ثم حاول إيجاد تعريف لمصطلح الأديب ومن يستحقه، متخذاً من « أدباء الحجاز » نموذجاً لذلك التعريف، وأفاض في استعراض أمثله حية لمن يستحق أن يوصف بالأديب. بينما تنبَّه من وضع إجابته تحت اسم « الأستاذ حاء» وهو الأستاذ أحمد رضا حوحو(14)، إلى الملمح الفلسفي في السؤال، وأجاب بما تحقق من فهمه له وفق هذا الاتجاه, فقال: « أصبح واضحاً إخفاق الأديب في هذه الحياة، وأصبح بديهي اً حرمانه من متعها، حتى كأنه لم يُخلق لأجلها، وحتى كأنه ليس فرداً من أهلها، بل لكأنه رجل غريب خلق ليعيش في عالم آخر غير هذا العالم. وإنما قذفت به الأقدار إلى هذه الدنيا، فدخلها غريباً شاذاً لا تتفق حياته وحياة هذا المجتمع » (15).
وبهذا اليقين الجازم يقطع حوحو بإخفاق الأديب، وغربته عن الدنيا، ويضع عدة تفسيرات لأسباب هذه الغربة، حيث يولِّد من السؤال / الاستفتاء، سؤالاً آخر من عنده، فيقول: « ما هو يا ترى سبب إخفاق الأديب في الحياة؟ » (16) ويجيب عن ذلك, فيقول: « كثيراً ما يتساءل الناس هذا السؤال، ويذهب كثير منهم إلى تعليلات سخيفة لا تتفق وكرامة الأديب، ؟ أما السبب الذي نراه نحن, ولا يخفى عليك أيها القارئ؛ أن للحياة ناموساً خاصاً، يجب على هواتها وعشاق نعيمها وترفها الخضوع له، والخنوع لقوانينه؛ وهذا الناموس هو مخالف كل المخالفة لفكرة الأديب، والطريق التي يسير عليها..»إلخ. (17), فهو يقرر هنا مخالفة الأديب للثابت، ويشترط عدم استسلامه لما هو مقرر، ويوالي مد سلالة الأسئلة,فيقول:« من هو الأديب ياترى حتى يكون شاذاً هذا الشذوذ كله,عن حياته ومجتمعه، وحتى يتورط هذا التورط العظيم في البؤس والشقاء » (18).
ثم يحلِّل ويبرهن ويجيب، ويتساءل أسئلة أخرى، إلى أن ينتهي إلى أن « مواكب الأدباء في العالم شرقاً وغرباً قديماً وحديثاً قضوا كل حياتهم في ضنك عظيم وبؤس مُلِّح وشقاء كبير، كأبي بكر الخوارزمي وابن الراوندي، وإمام العبد، وحافظ إبراهيم من الشرقيين. ولافانتين ولا مارتين، واندري شنيه وبودلير وغيرهم من الغربيين » (19).
وأحسب أن هذه العيِّنة النوعية من « استفتاءات المنهل », وهذا النموذج من المشاركين فيها- حوحو مثلاً-؛ يبين مستوى تعاطيه مع جوهر الاستفتاء/السؤال، ووعيه العميق بالفكرة،وإجابته القطعية بإخفاق الأديب في الحياة، وفق ما عرضناه من إجابته وأسئلته. لنتبين كذلك موقفه الفلسفي من هذه القضية، وكيف أخذها إلى شرك الأسئلة الوجودية الكبرى في الحياة، وجدلية الألفة والغربة، والخنوع والشذوذ، والقديم الحديث، والشرق والغرب، والنعيم والبؤس.. إلخ. وهو موقف يرشح بعمق ثقافته ومرجعيته المعرفية، ورؤيته الفلسفية وموقفه من الثقافة والناس والحياة.
فهو في وارد الإجابة / الفُتيا، يلج المداخل المعقدة لقضية الأديب والحياة، ويبدأ بالقطع بشقاء الأديب، ثم يعرج على نواميس الحياة، ويتقاطع مع قوانينها، إلى آخر ماانتهى إليه في إجابته, من استشهاده على صحة فرضيته بنماذج من الأدباء والفلاسفة البائسين والمخفقين، وفقاً لدلالة الإخفاق التي يراها. وأحسب الأستاذ حوحو، مثال حي على وعي ما.. لدى ذلك الجيل ليس فقط فيما يتعلق بـ « استفتاء المنهل » بل في قضية الأدب والحياة، وما تقتضيه مسؤلية الرأي وأبعاده, في تلك المسافة من التروي في التصور والوعي بأصول الحوار، ونظم الصياغة، وتراتب الأفكار، وحضور البرهان، على نحو مؤصل، لا يباشر المظهر بقدر ما يحرر جوهر السؤال/القضية، وينضد إجابته تجاهه.
-