الثقافية – فيصل العواضي
التف نخبة من المفكرين والمثقفين في أمسية الشيخ أبي عبدالرحمن بن عقيل الظاهري الموسومة بالأربعائية التي تقام كل أربعاء في منزل الشيخ ويؤمها عدد من المثقفين ومحبي فكر الشيخ ابن عقيل، وقد كان موضوع هذه الأمسية «وقفات مع كتاب الدكتور إبراهيم بن عبدالرحمن التركي فواصل في مآزق الثقافة العربية» حيث بدأ الشيخ حديثه عن الموضوع موضحاً أنه أراد لهذه الأمسية أن تكون مقتصرة على نخبة من الدكاترة والمفكرين ليكون النقاش هادئاً ومركزاً، وأمر آخر هو أنه أراد حضور الدكتور إبراهيم التركي ولكن ظرفه المرضي حال دون ذلك مثنياً على الحاضرين، وبدأ حديثه عن الكتاب بتعريف أنه يزيد على 300 صفحة من القطع الصغير وهو كتاب مشحون بالمعارف ومناقشتها ربما يزيد حجم الكتاب أضعافاً مضاعفة حسب تعبير الشيخ.
وقال أبو عبدالرحمن كنت معجباً بإبراهيم التركي من خلال ما أقرؤه له في الصحافة، ولما التقيت به وجدته رجلاً وقوراً هادئاً حيياً وعندما قرأت كتاب فواصل في مأزق الثقافة العربية أردته أن يكون من قسمين، قسم أنشره ولا أبالي لأنه يتكلم عن الجوانب المضيئة في الكتاب، وقسم لي عليه ملاحظات كثيرة وكنت أود لو كان حاضراً بيننا ليحرك رواكده وليكون الحوار مثمراً ثم إن نيتي بعد ذلك أن أتحدث عن الكتاب في أكثر من جلسة مع ما أنشره.
ثم انتقل أبو عبدالرحمن إلى الحديث عن منهج الدكتور إبراهيم التركي في الكتاب قائلاً: منهج الدكتور في هذا الكتاب منهج نادر لم يألفه الأدب السعودي وإنما هو منهج لدى الخواجيين مثل نيتشه فهناك كتب تحوي حكماً فلسفية متناثرة أو فواصل متناثرة لا يربط بينها رابط، ونجوم في ثلاثة إلى أربعة أسطر فواصل ثم نجوم وتبدأ فواصل أخرى لا يشعرك بالرابط بين هذه الجمل ولكن يجعلك تستنبط أن كل هذه الفواصل تعني موضوعاً ما يريده، ومن هؤلاء جلال الدين الرومي وسعدي الشيرازي وفولتير كلهم كتبوا من هذه الفواصل وجعلوا القارئ يستنبط ومنهم أيضا فرانسيس بيكون وقد ترجم كتابه بعناية الدكتور محمد خير البقاعي وكذا البيقوني في كتابه منظومة الحكم البيقونية، والدكتور إبراهيم سار في هذا المنهج ولكنه خالفهم لأنه لما يورد فاصلة أو فاصلتين يجعل بينهما رابطاً ولو ترك هذه المسألة لكان أفضل، وترك للقارئ الاستنباط بنفسه، ثم أني رأيت له -حفظه الله- استحساناً أو استهجاناً لهذه الفواصل التي يكتبها، وهذا مما آخذه عليه فإما أن يترك فواصله دون استحسان أو استهجان ويترك للقارئ أن يستنبط ما يشاء، وإما أن يصر على الاستحسان والاستهجان فلا بد من محاكمة علمية فكرية دقيقة.
واستطرد أبو عبدالرحمن أن كتاب «فواصل في مأزق الثقافة العربية» استوعب أربعة وخمسين مأزقاً، مأزق النص، ومأزق الكاتب، ومأزق المتلقي، وكلها ملاحظات نفيسة لمن أراد الاطلاع على متغيرات الثقافة وهذا الاتجاه يظهر من الإهداء لما ذكر أولاده وذكر الأعوام التي كتب فيها الكتاب وكأنه يقول هذه الأعوام حصلت فيها متغيرات في الثقافة.
أسلوبه يراوح بين مصطلحات المترجمين المتلقين عن الغرب فهو يقول مثلاً «الإسلامويين» وكان يمكن استخدام اللفظ العربي «إسلاميون» إذا نسب جماعة للإسلام لكنه من جانب آخر عنده احتفاء بالأسلوب العربي المبين ويستعمل أيضاً محاسن الجناس في فواصله مثل فواتح ومفاتح والطامحة والجامحة والمؤتلف والمختلف وجفوات وفجوات وكثيرات غيرهن.
بعدها انتقل أبو عبدالرحمن إلى الحديث عن المقدمة، والمقدمة أيضاً فواصل أعطى فيها نماذج وكأنه يقول، كتابي مفتاح لما سيأتي بعده. واختار أبو عبدالرحمن الفاصلتين عن أبي الدرداء رضي الله عنه وسفيان الثوري -رحمه الله- وكيف رفضا المال واتسما بالورع وجانبا السلطان وقبول هديته ثم انتقل للحديث عن الدكاترة زكي مبارك والفواصل التي أشار فيها الكاتب إلى زكي مبارك وتحولاته الفكرية وإعجاب الدكتور إبراهيم التركي به إلى جانب كونه يمدح عندما يرضى ويهجو عندما يغضب وأشار إلى ما جاء في الكتاب عما ساد من المجون في زمن لسان الدين ابن الخطيب في القرن الثامن الهجري.
وبعد أن توقف أبو عبدالرحمن أمام الفواصل التي اختارها بدأ بما سماه المحاكمة حيث قرر أن الورع مستحب كما في حالة أبي الدرداء وسفيان لكنه ليس شرطاً أن يتسم به كل أديب فمن كان غنياً ولديه ما يكفيه تعتبر الكتابة بالنسبة له من باب تعليم العلم مع أنه قد يستعين بما يأخذه من أجر على طباعة أو إخراج كتاب جديد فيه منفعة للناس إلى جانب أن العلماء رغم انقسامهم حول السلطان لكنهم لم يحرموها وقد وضع بعضهم شروطا لقبولها.
أما الدكاترة زكي مبارك فقد اختلف أبو عبدالرحمن مع مؤلف الفواصل حوله واعتبر أن عدم الثبات عيب وليس ميزة؛ كون المتغير هو العامل وليس الزمن وهناك يقينيات لا بد من الثبات عليها مهما كانت المتغيرات إضافة إلى أن المدح عند الرضا والهجاء عند الغضب ليس شيمة أيضا.
وقال أبو عبدالرحمن إن هناك قصوراً عند بعض طلبة العلم الشرعي في فهم الثقافة إذ يعتبرونها الأخذ من كل فن بطرف لكن تعريفها عند أبي عبدالرحمن أنها التخصص في شيء يعرف به إلى جانب معرفة مبادئ الأشياء مثل معرفة مبادئ الطب والفلسفة والمعرفة في كثير من الكتب تعريفا واضحا وموجزاً مفرقا بين الأدباء والمثقفين وقال إن ابن قتيبة والجاحظ وأبا حيان التوحيدي كانوا أدباء ولم يكونوا مثقفين لأنهم أخذوا من كل فن بطرف ولم يعرف لهم مجال واحد رغم أنهم ألفوا مؤلفات مفيدة وجيدة بينما الإمام الشافعي وابن جرير الطبري وابن حجر كانوا مثقفين لأنهم امتازوا بسعة علمهم بأشياء كثيرة لكنهم أيضا تخصصوا وعرفوا بتخصصهم.
وأوضح أبو عبدالرحمن أن إشارة مؤلف الفواصل إلى المجون في زمن ابن الخطيب كما جاء في كتب الخطيب وأرجع أبو عبدالرحمن الأمر إلى صدر الدولة العباسية إلى أبي نواس وبشار وعنان وتلك الأحاديث التي نقلتها لنا كتب الأدب. واختتم أبو عبدالرحمن محاكماته لكتاب الفواصل بالتعليق على أن الاستقامة الخلقية ليست شرطاً في الثقافة والمثقف، موضحاً أنه في الغرب جل المثقفين لم يكونوا أسوياء وأنهم انتهو إما إلى الجنون أو الانتحار أو الشيخوخة المبكرة ومع ذلك فقد كانوا مثقفين وتركوا إبداعاً ثقافياً قيماً.
لقطات
*رغم حضور شخصيات فكرية وثقافية كبيرة مثل الدكتور عبدالقدوس أبو صالح والدكتور عبدالله الوشمي وآخرين إلا أنهم آثروا الاستماع إلى الشيخ أبي عبدالرحمن ورفضوا إبداء أي تعليق على وعد مناقشة أخرى يكون فيها الدكتور إبراهيم التركي -شفاه الله- حاضرا.
* طالب الحضور عدم توقف أربعائية أبي عبدالرحمن في فصل الصيف لما يحصل بها من فوائد جليلة ولحرص محبي الشيخ على ألا تفوتهم جلساته. * علق بعض الدكاترة العرب من أساتذة الجامعات على الزخم الثقافي الذي تعيشه مدينة الرياض مما لا يوجد في أي مدينة أو عاصمة عربية أخرى وذلك من خلال المنتديات الثقافية طيلة أيام الأسبوع التي تتعدد أحيانا في اليوم الواحد.
-