بعد تجميعها ونشرها في كتب، وتصنيفها ضمن اهتمامات محددة، سيتسنى لقارئ مقالات «محمد العلي» أن يطلع على جهده، كأحد المثقفين العرب الذين عنيوا خلال فترات زمنية طويلة ومتواصلة بتحليل مكوناتنا الثقافية، محاورة واستشهاداً ونقداً ونقضاً، من خلال الوقوف على الآليات المعيقة لتطورها، سواءً عبر اللغة (كما ذكرنا سابقاً) أو عبر آليات إنتاجها التراثية، التي ما زالت، مع غيرها من العوامل، تعيق مجتمعاتنا عن مواكبة روح العصر في مختلف الميادين المعرفية.
وفي عدة مقالات، يعمل على استعراض ونقد العديد من آليات إنتاج تلك الثقافة الكسيحة، ونختار منها وقفاته التالية:
اللازمنية
يتساءل في مقالة بنفس هذا العنوان: هل ثقافتنا زمنية، بمعنى أنها تحمل سمات الزمن الذي نحن فيه.. أم أنها ثقافة خارج الزمن، أي أن (الذاكرة) هي التي تتحكم فيها، وهي التي تطبعها بطابعها؟
وفي معرض رده على السؤال يقول: «ثقافتنا ثقافة ملتبسة (هجينة) يتنازعها الماضي بكل جبروته، والحاضر الذي يمد ذراعيه بوهن، وشعور غير بعيد بالهزيمة.. وهنا الفرق بيننا وبين (الآخر)، الغرب تحديداً.. فذاك قد فرغ منذ زمن بعيد، من تحديد قسمات ثقافته بسبب الزمن،... أما نحن فلا فرق في ثقافتنا بين فكرة قيلت منذ ألف سنة وبين أخرى قيلت اليوم، بل إن شرعية الفكرة تكون أشد رسوخاً حين نستشهد عليها بقول للجاحظ من أن نستشهد عليها بقول لطه حسين» (كلمات مائية - ص 254).
ولعل من يقرأ كتابات «العلي» سيرى في كلامه هذا تناقضاً ظاهرياً يمكن الاستدلال عليه بكثرة استشهاداته بالشعر العربي بدءاً من امرئ القيس، وبأقوال الكتاب والمؤلفين القدامى كالجاحظ ونظرائه، منذ الجاهلية وحتى اليوم؟
ولكن القراءة الشاملة والمتأملة لتلك الاستشهادات ستأخذنا للوقوف على جهده النقدي والجدلي، لمقاربة كل ما يتوارى خلف تلك المكونات من ترسبات متحجرة من جهة رئيسة، فيما سنرى احتفاءه، من الجهة الأخرى، بالجانب الحي منها، الذي ينطوي على وجوه المقابلة والمفارقة بين مكونات وذهنيات تاريخية كانت أكثر تقدماً، من ذهنيات معاصرة ما برحت تزداد إيغالاً في انغلاقها وجمودها، حين توقفت عن استثمار البعد الثقافي المستنير في ذلك التراث، فكراً وأدباً وإبداعاً.
ولتجلية ذلك الجهد الذي عني بإبراز الوجوه المشرقة لبعض جوانب التراث، نقرأ إحدى مقالاته في جريدة عكاظ بعنوان «الفكر والواقع»، التي يطرح فيها رؤيته لدور الزمن (التاريخي) في سيرورة علاقة الفكر بالواقع، ونختار منها النقاط التالية:
- هدف أي فكر هو: تغيير واقع ثقافي ما.
- هدف ابن خلدون هو: تغيير الواقع من خلال تغيير النظرة إلى مفهوم التاريخ..
هدف حازم القرطاجني هو: تغيير الواقع حين زج بمفهوم (الجماهير) كبعد من أبعاد التجربة الشعرية..
- هدف المعتزلة هو: الوقوف في وجه الثقافات الأخرى التي غزت الثقافة العربية الإسلامية، وذهب هذا الفكر إلى استخدام نفس أسلحتها بمفهوم مغاير وهدف مغاير..
- هدف ابن تيمية هو: تغيير الواقع حين رأى انزلاق الأمة إلى طرق التصوف والشعوذة، والتمزق الطائفي فدعا إلى العودة إلى المنبع الأصلي...
ثم يتساءل: «لماذا (وقفت هذه الأفكار) كما وقف فكر الجاحظ وفكر الفارابي، وفكر ابن خلدون، وقوافل المعتزلة، وفن أبي تمام.. لماذا بقي هذا كله في متحف التاريخ، وبقي الواقع الذي جاء ذلك الفكر والفن لتغييره.. بقي كما هو، بل ازداد تهالكاً؟» (العلي شاعراً ومفكراً- ص107).
وملخص الإجابة على هذا السؤال الضخم، نجده في هذه المقالة وغيرها من كتباته، حيث يرى بأن كل تلك الأفكار وغيرها (عدا فكر ابن تيمية، الذي أحياه الشيخ محمد بن عبدالوهاب بتحالفه مع إمارة آل سعود في الدرعية)، قد بقيت بعيداً عن القدرة على تغيير الواقع أو التأثير بفاعلية ملموسة فيه لأسباب ذاتية وموضوعية، ومن أهمها عدم تكامل الفعل النظري مع العمل، وعدم الإحاطة بالواقع الموضوعي واشتراطاته (فالمعتزلة - كما أوضح الكاتب في محاضرته مفهوم التراث - حين قربهم المأمون، بطشوا بخصومهم الفكريين، ونسوا جذري «العقل وحرية الاختيار» الذين قام فكرهم عليهما).
الأجوبة الهرمة
لماذا يطول عمر الجواب عندنا.. رغم أن نمو المعرفة واتساعها من شأنه أن يغير الأجوبة على السؤال الواحد؟
في إجابته على هذا السؤال، يحدد ما يلي:
الخوف: إن أي إجابة جديدة على السؤال بصورة صحيحة علمية، لا تبقى عند هذا الحد، بل إنها ستولّد سؤالاً آخر..وهذا السؤال الآخر هو مبعث الرعب!»
التقليد: إن أكثر الأجوبة التي نجابه بها الأسئلة ليست نابعة من تفكيرنا في السؤال، وصوغ الإجابة عليه، بل إنها مأخوذة من غيرنا.. من (الموتى) منذ قرون..
ثم يقول: «الموتى أجابوا على السؤال بحسب مستوى المعرفة في زمان هم (..)
إذاً العيب ليس في الموتى. العيب فينا، لأننا ألغينا الزمن، ورمينا تطور المعرفة في البحر الميت، ووقفنا وقوف الوتد!
ولا يقيم على (جهل) يُراد له إلا الأذلان بغل الحي والوتدُ»
(كلمات مائية - ص 363).
ووقفات كاتبنا حول أسباب استمرارية «الأجوبة الهرمة» في ثقافتنا، قد تركزت في مشكلتي الخوف من السؤال الذي يقودنا عنوة إلى مواجهة الجديد الذي نخاف من انكشاف قدراتنا على التعاطي مع تحدياته واستحقاقاته، ثم من آليات تفكيرنا التي اعتادت الفرار من المواجهة صوب الاحتماء بالنصوص الجاهزة التي نحفظها من اجتهادات وإجابات الموتى، وتلك هي أبرز شواهد أزمة ثقافتنا الفقهية السائدة والمسيطرة.
ولكن السبب الأكثر أهمية لإدامة رضوخنا لحماة ذلك السد، يختبئ في ثنايا بيت الشعر الذي أورده في مقالته، حين استبدل الكلمة الأصلية في البيت «ضيم» بكلمة «جهل» لينشأ لدينا معنى مركب من «ضيم الجهل، وضيم الذل».
ثقافة التكرار
يعرض لهذا الموضوع في ثلاث مقالات، يقول في الأولى:
هناك تكرار يحمل صفة الضرورة مثل تكرار الأكل والنوم، أو يحمل صفة الجمال مثل القبلة، فهي مهما تكررت بين عاشقين أو حبيبين تبقى مترعة بالجمال والرشاقة».
وهناك تكرار يدل على العقم والجدب والتصحر (...)
وحين تقرأ كتابين أو ثلاثة من كتب التراث في موضوع واحد ومتشابه، تحتاج إلى صبر أيوب حتى تتحمل التكرار وإعادة التكرار فيه..
فلماذا أصبحت ثقافتنا ثقافة تكرار؟»
يجيب على ذلك في مقالة ثانية: «ثقافتنا لا تؤهل أفرادها لأي تساؤل، سواءً كان عن الماضي أو الحاضر أو المستقبل.. ثقافتنا هي ثقافة (السمع والطاعة). (كلمات مائية - ص 356).
وهذا ما يؤدي إلى أن يكون «رفض الإبداع، ورفض الاجتهاد على رأس الأسباب التي أفضت بثقافتنا إلى هذه الحال (..)، كما يقف انعدام (التجريب) سبباً آخر في الجمود والعقم ثم التكرار!!» (كلمات مائية - ص 241).
وهذا ما يؤدي -بحسب كلامه في مقالة ثالثة- إلى تكريس عطالة (فقدان الدهشة)، وهذه لا تأتي من عدم قدرتنا على تجاوز فاعلية آلية التكرار التراثية، وحسب، وإنما من وقوعنا تحت تأثير آلية «تكرار معاصر آخر» يتم توظيفه بطريقة ماكرة عبر وسائط الإعلام ومنها الصحف والفضائيات، التي تعمل جميعها على تكريس حالة فقدان الذات لدهشتها أو استغرابها أو استنكارها لأفظع الجرائم التي تسيل دماؤها من شاشات التلفاز ومن صفحات الجرائد!
وفي هذا السياق يستشهد بواقعنا المعاش بقوله:» نسمع كل حين عن القتل في فلسطين وفي العراق، وتمر علينا الأرقام الهائلة، ولكننا فقدنا الدهشة.. فقدنا الإحساس بالفظاعة، وكأن البشر أصبحوا أغناماً أو أقل» (كلمات مائية - ص 228).
لذلك يمكننا القول بأن «رؤيته العميقة» هذه، تفسر لنا ذلك التلازم الجدلي بين الباطن والظاهر ما بين فاعلية هاتين الآليتين للتكرار، حيث نغدو وكأنما قد وقعنا بين حجري «رحى» تكرار هائلة تتقاسمها الأزمنة القديمة والجديدة، أولهما يقبع في ثقافة الاجترار وتغييب السؤال النقدي عبر مكوناتنا التراثية، وثانيهما يتشكّل وفق عولمة الفضاء والصحف التي تستخدم فاعلية التكرار الماكر للحقيقة أو الكذب، مما يكرّس فينا حالة من الاعتياد البائسة ويؤدي إلى «حجب التفكير عن الرؤية النقدية، ويغرس القناعة الخاطئة لاشعورياً هنا -بحسب كلامه-»، وذلك ما يفضي بنا إلى فقدان الغضب والرفض، لكل ما يتعرض له الإنسان -والعربي هنا تحديداً- من قسوة وعنف، سواء جاء من مكوناتنا الثقافية التراثية، أو أتى من خلال استقبالنا للصورة الإعلامية، التي تقضي بتكرارها، على كل مشاعرنا الإنسانية العفوية الممكنة!!.
-
+
الدمام