-1-
المسار الرئيس لمساهمة المتخصصين في علم الاتصال الجماهيري في العمل العام -خارج الجامعات والجمعيات العلمية- يتمثل في الالتحاق بالعمل المهني في حقول الإعلام التقليدي الثلاثة؛ الصحافة والإذاعة والتلفزيون، ثم ما استجد عبر مجال الإعلام الجديد الآخذ في التشكل. وإلى مسألة الإعلام الجديد لي عودة في الفقرة التالية.
دور المتخصصين في الممارسة المهنية أمر يحتاج المرء في فهمه وتقييمه انتباهاً إلى مسألتين؛ الأولى أن المجال التطبيقي للإعلام وخلافاً لعلوم كثيرة، لا يقتصر على المتخصصين. هذا واقع ممتد جغرافيا وتاريخيا، وليس خاصاً بالوضع هنا أو الآن. فعندما تعين محرراً للشئون الثقافية -مثلاً- تفيدك معرفته الإعلامية لكنها لا تكفي. أنت بحاجة المثقف مثل حاجتك إلى الإعلامي في هذه الوظيفة. بكلام آخر، العلم الإعلامي لا يكفي لممارسة العمل الإعلامي، بل يستدعي الأمر أن يكون العامل متعلماً لحقل فرعي يكون تخصصه المهني الدقيق، وهذه القاعدة هي التي جعلت اللعبة يلعبها اثنان. صار المتخصص في الحقل الفرعي إذا أخذ بطرف من العلم الإعلامي مرشحاً لشغل الوظيفة الإعلامية. هذا الواقع الذي أقرر وجوده -دون تزكية أو معارضة- ساهم في إضعاف أثر العلم النظري على الممارسة التطبيقية، لأن هذا العلم لم يكن في أي لحظة أرضية مشتركة لجميع العاملين. وعليه فإن شاغل الموقع القيادي أولى بإقرار ما يراه صائباً، اتفق أو اختلف مع الرؤية العلمية.
المسألة الثانية أن المؤسسة الإعلامية لا تعمل في فراغ، إنها مؤسسة اجتماعية. والمؤسسة الاجتماعية تعبير ثنائي المصطلح، يشير إلى وجود مؤسسة تعمل في المجتمع، والمصطلح الأول -المؤسسة- بتعبير يتجنب الغموض أفهم منه وجود كيان قائم يعبر عن نظام، ويحدد المصطلح الثاني مجال عمل المؤسسة بالمجال الاجتماعي. والواقع أن تعبير «الاجتماعي» من التعبيرات المشكلة؛ ذلك أنه يأتي بمفهومين -وبينهما تقاطع-. في المفهوم الأول يقصد بالاجتماعي النسبة إلى المجتمع بكل ما فيه، فتصبح المؤسسات السياسية والاقتصادية والتعليمية والإعلامية وغيرها هي تراكيب للمجال الاجتماعي العام، وفي المفهوم الثاني يقصد بالاجتماعي مجال الأسرة والطفل وما يدخل في إطار هذا النوع من الاهتمام، وبالطبع فإن هذا المفهوم -الثاني- تعبر عنه في المفهوم الأول مؤسسة جزئية هي غالباً مؤسسة الأسرة. والذي أعنيه أنا هنا عندما أصف المؤسسة الإعلامية بمؤسسة اجتماعية هو المفهوم الأول.
مؤسسات المجتمع تعبر عن ستة أنظمة؛ هي النظام التعليمي، والنظام السياسي، والنظام الاقتصادي، والنظام الاجتماعي -بالمفهوم الثاني-، والنظام الأخلاقي (الديني)، ونظام الاتصال الجماهيري.
وقد اخترت التعبير بالنظام عوضاً عن المؤسسة لأن النظام الواحد قد تشكله مؤسسة أو أكثر، فمثلاً النظام السياسي في الولايات المتحدة تشكله مؤسسات عديدة منها الرئاسة ومنها الكونجرس -الذي يتشكل بدوره من مؤسستين هما مجلس النواب ومجلس الشيوخ-. لذا فإن تسمية المؤسسات الممثلة لهذه الأنظمة هو أمر مشكل لأنها تختلف من حيث طبيعتها وعددها عبر الامتدادين التاريخي والجغرافي. لهذا فإن من الأسلم علمياً -في تقديري- المساواة بين المؤسسة والنظام، أي أن نفهم أن المقصود بالمؤسسة هنا جميع المؤسسات التي تشكل النظام.
وهذا التقسيم، أعني الأنظمة الستة، هو تقسيم نظري يستهدف تصور المسألة بطريقة أعمق، إلا أننا في الواقع لن نرى هذا التمايز بصورة جلية، إذ أن التداخل بين عمل تلك المؤسسات -المعبّر عن تداخل الأنظمة بالطبع-، يشكّل في نهاية المطاف المجتمع.
غير أن هذا التداخل أيضاً يختلف من مجتمع لآخر، بل ويتغير في ذات المجتمع مع تغير ظروفه، واقصد هنا أن حجم التأثير يختلف بحسب طبيعة المجتمع وظروفه. لا يمثل تأثير المؤسسة الدينية في باقي مؤسسات المجتمع الأمريكي، تأثير نظيرتها في باقي مؤسسات المجتمع الإيراني). وبالنسبة لنظام الاتصال الجماهيري فإنه يؤثر ويتأثر بمؤسسات الأنظمة الأخرى، إلا أن حجم تأثيره -وتأثره- يخضع لطبيعة المجتمع وظروفه.
عملياً يمكن ترتيب تأثير هذه المؤسسات في المؤسسة الإعلامية بحسب المجتمع المتحدث عنه. وبصفة إجمالية يمكن اعتبار المؤسسة الاقتصادية هي الأكثر تأثيراً في إعلام الدول الديمقراطية، والمؤسسة السياسية هي الأكثر تأثيراً في إعلام باقي الدول، في مقابل أن تأثير المؤسسة التعليمية هو الأقل عموماً، بينما يتأرجح تأثير المؤسستين الاجتماعية والدينية -في المؤسسة الإعلامية- من مجتمع لآخر. وعلى الضفة المقابلة؛ أي تأثير المؤسسة الإعلامية في باقي المؤسسات يكون العكس تماماً؛ أي كلما قل التأثير ازداد التأثر وبالعكس. ستجد أن المؤسسة الإعلامية بالغة التأثير في المؤسسة التعليمية، وقد دأبت المؤسسات التعليمية على التعريض بالإعلام واعتباره مؤثراً سلبياً على الأغلب، ولولا قوة تأثيره لما أثار ردود فعل بهذا الحجم، بينما هو أقل قدرة في التأثير على مؤسسات الاقتصاد الحر، والمؤسسة السياسة في الدول غير الديمقراطية.
بقي أن أشير إلى نقطة أخيرة في هذا السياق النظري، وهي الصفتان الرئيستان اللتان تتميز بهما المؤسسة الإعلامية عن باقي مؤسسات المجتمع. الصفة الأولى أن المؤسسة الإعلامية تقوم بادوار المؤسسات الأخرى، فمثلاً قد تقوم بمهمة التسويق عن طريق الإعلان التجاري -المؤسسة الاقتصادية-، وقد تتولى التعبير عن الآراء والأفكار المتعلقة بالشأن العام -المؤسسة السياسية- وهكذا. أما الثانية فهي أن المؤسسة الإعلامية مؤسسة غير ملزمة لجمهورها خلافاً للمؤسسات الخمس الأخرى. لا أحد ينزل البرنامج التلفزيوني منزلة الفتوى الدينية، ولا أحد يحمل المقال الصحفي على محمل القرار السياسي.
إذا طبقّت هذا الكلام في النظرية على الواقع العلمي للمؤسسات الإعلامية المحلية أرجح أن تبلغ معي خلاصة تفيد بأن الدرجة المتدنية لاستقلال المؤسسة الإعلامية تسببت في أن تكون جملة من المعايير المتقدمة في بناء قراراتها على مختلف الاتجاهات، معايير غير إعلامية؛ لا بالمعنى المهني ولا بأخيه العلمي. فصارت البيئة الإعلامية، والحالة هذه، غير ملائمة لتطبيق الفكرة التي يتم بناءها ودرسها في المحضن العلمي.
في رأيي أن هاتين المسألتين، انتفاء كون علم الاتصال الجماهيري أرضية مشتركة بين العاملين في المؤسسات الإعلامية، وقلة استقلالها، تفسران تواضع الأثر العلمي لعلم الاتصال الجماهيري في مؤسسات الإعلام المحلية.
-2-
لا يتوفر تعريف جامع مانع لمصطلح الإعلام الجديد، ولا حتى مفهوم متفق عليه، يحدد هذا المصطلح حتى الآن. وفي عموم ما راجعته وجدت أني أمام رؤيتين، بينهما شيء من الاختلاف. الأولى هي الإعلام الجديد بوصفه بديلاً للإعلام التقليدي، والثانية هي الإعلام الجديد بوصفه تطوراً لنظيره التقليدي. ويميل أصحاب الرؤية الأولى إلى وصفه بالإعلام البديل، وأصحاب الرؤية الثانية إلى تسميته بالإعلام الالكتروني. وفي رأي بعض الباحثين -وأنا منهم- كل الصفات الثلاث؛ الجديد، والبديل، والإلكتروني، عاجزة عن تقييد دقيق للممارسة القائمة. الواقع أننا إزاء جملة من الممارسات المتباينة إلى حد كبير، بما يجعل التوصيف الأدنى للفهم العام أن المقصود هو عموم الممارسة الإعلامية في غير الصحافة والإذاعة والتلفزيون على صورهم التقليدية. وهذا توصيف رابع يفتقد كذلك إلى الدقة الجامعة المانعة.
هذا الجدل -العالمي بالمناسبة- في تحديد ماهية الإعلام الجديد ينسحب بطبيعة الحال على التصورات الجزئية التي مازالت تعيش لحظات نشأتها في البحوث العلمية المتخصصة، وينعكس بالضرورة على التوقعات المستقبلية في هذا الميدان. ويزداد الأمر تعقيداً إذ يمتد الجدل حول التعريف والتصورات الجزئية والتوقعات المستقبلية إلى جدليات فرعية تتعلق بإمكان التصنيف وكفاءة التنظيم القانوني واختيار السياق التاريخي -وبالتالي المعرفي-، خصوصاً في ظل التطورات المتلاحقة في تقنيات الاتصال التي أدت -ضمن ما أدت إليه- إلى التعجيل بالمزج بين وسائل بدت قبل قليل مستقلة، حتى صارت الصحافة والإذاعة والتلفزيون بل والسينما والفيديو وأجهزة التسجيل الصوتي تطبيقات متوفرة على الحاسب الآلي، وذات طبيعة اتصالية جماهيرية على الإنترنت، وما هي إلا لحظات حتى انتقل كل ذلك إلى أجهزة الهواتف المحمولة.
من أجل هذا فإن المتخصصين في الإعلام الجديد في بلادنا لازالوا أشخاصاً يتصفون بقلة العدد، وبساطة التكوين العلمي، بما يجعل مساهماتهم الفردية قليلة الأثر في البيئتين العلمية، والعملية.
ومن أجل هذا -أيضاً- فإننا أحوج ما نكون إلى تنمية هؤلاء، عدداً وعدة، وتشجيع صناعة قراءات نظرية تستعمل الأدوات العلمية، في تحليل هذه الممارسات الاتصالية الجماهيرية الكثيفة، التي تصلنا بأنفسنا وبالآخرين. طلباً للفهم أولاً، وسعياً لتعظيم الفائدة ثانياً.
-3-
بقيت إشارة إلى مساحة أخيرة لأعمال العقل العلمي في مجال الاتصال الجماهيري، وذلك عبر الممارسة النقدية تجاه الواقع العملي، التي تتخطى المحيط الأكاديمي ووسيلة البحث العلمي الجامعي إلى النشر العام وتقارير الأداء السنوية. هذا النوع من الممارسة هو من اختصاص المؤسسة الأكاديمية أو ما تفرع عنها؛ سواء كان تفرعاً مباشراً مثل الجمعيات العلمية أو المراكز البحثية المتفرعة من الجامعات، أو تفرعاً غير مباشر مثل المؤسسات العلمية المستقلة.
في السعودية هذا الدور شبه غائب، إما لغياب المؤسسات أو لتواضع الممارسة. والحاجة في تقديري باتت ملحة في اللحظة الراهنة أكثر من أي لحظة مضت لإحياء هذا النوع من الجهد العلمي لتشكيل حالة فرز واعية تجاه عموم الممارسة الإعلامية، ولبناء ثقافة عامة بجدوى الدراسة المتخصصة في تعميق الوعي بالإعلام، ولإنشاء المثال الذي يمكن قياس النجاح من خلال معاييره العلمية المنضبطة. وهذه المهام الثلاث؛ الإحياء والبناء والإنشاء، تحتاج إلى دعم لا يتحول إلى إشراف، ورعاية لا تمسي توجيهاً، واستقلال لا يعتدّ بما دون الانتماء الوطني، ووعي لا يقاس بخلاف المعايير العلمية.
-