أتذكر عندما كنت في مراحل الدراسة أنني كلما حصلت على شهادة تفوق أو هدية تميز، كنت أستلمها بلهفة وأسرع بها إلى المنزل لأطلع عليها والديّ وأهلي، فسعادتي لا تبدأ في الوصول إلى قلبي إلا حين أستشعر سعادتهم. تلك النظرات المحبة والفخورة في أعينهم كانت تساوي عندي المعنى الحقيقي للشهادة والهدية والتفوق والتميز. العودة بالنجاح إلى البيت المعمور بأعزائك وعزوتك إحساس عجيب، كأنك تعود إلى القاعدة التي انطلقت منها لإنجاز مهمة، تعود لتبين لمن بعثك أن المهمة قد أنجزت بنجاح، لتقول إن ثقتكم بي في محلها، وإن أمنيتكم لي قد تحققت. يفرح الأهل لك وبك، فرحهم فرحك، ونجاحك نجاحهم.
تأملت الروائي يوسف المحيميد ليلة تكريمه من قبل وزارة الثقافة والإعلام في جدة، تأملت استقراره النفسي وهو محاط بأهل بلده، يستقبلونه بحفاوة ويهنئونه بحرارة، تأملت هدوءه وطمأنينته وهو يتحدث ويلقي كلمة الشكر للحضور من إخوانه وأخواته في الوطن، تأملت الامتنان في عينيه وقد استشعر الفرح في قلوب من يهمهم أمره، ومن يزهون به، ومن يفرحون له وبه، فرحهم فرحه، ونجاحه نجاحهم. يوسف المحيميد، وأهله يحيطون به، كان فائزاً أحضر لأهله إنجازاً يحسب له ولهم، يقف بينهم واحداً منهم ولسان حاله يقول: لقد فزنا سوياً.
يشعر المحيميد أن فوز هذه الرواية يعدُّ شيئًا مهمًا ومشرّفًا بالنسبة للمملكة العربية السعودية وأنه « بمثابة رد اعتبار للرواية السعودية بعد تمنّع امتد لـ(25) عامًا، خصوصًا أنه دائمًا ما يثار أن الرواية السعودية هي رواية خفيفة، أو إنها رواية مبيعات، أو لا تعتني بالعمل الفني والجمال الحقيقي». ما معنى أن تعود بفوزك إلى بيت أنت فيه وحيد، تعلق الشهادة على جدرانه الصامتة، فيتحول إلى قطعة منه؟ الفوز الذي لا يشاركنا فرحته من يعز علينا ونعز عليه، هو فوز ميت لا طعم له ولا معنى.
من منا اتخذ مقعدًا قصيًا وراقب من بعيد وردد سؤاله الممتعض: « ما الذي يتميز به يوسف المحيميد عن غيره من كتاب الرواية في المملكة حتى ينال كل هذا الإعجاب والاحتفاء «؟ هذا سؤال صادفته ذات مرة في حوار فيسبوكي إثر فوزه بجائزة أبو القاسم الشابي التونسية، وتفكرت إن كان السؤال فعلاً يروم إجابة أم أنه استنكاري في صيغته؟ أيًا كان الدافع وراء هذا السؤال فإن الرد عليه سهل وحاضر دون جهد: يقول د. سحمي الهاجري في لقاء له بأن المحيميد « منذ أول إصدار له وسعيه مشهود لتسويق كتبه ومجاميعه في الأسواق الأدبية.. وبأن تجربته تظل متشحة بالإصرار والمثابرة» مهما اختلف النقاد والقراء حولها.
هذا ببساطة تامة هو ما يميز المحيميد عن غيره من الكتاب، وهذا لا يعني بالضرورة أنه لا يتميز في نوعية ما يكتبه، لكن الملمح الأبرز لنجاحاته هو ذلك الحرص الدؤوب على حمل أعماله والسير بها في الأرض، حرص قد لا يروق للغامزين اللامزين الذين يرون أنه « يكتب ويطارد دور النشر ويتصور مع الروائيين العالميين ولديه جلد على تلميع ما ينجزه» (تعليق فيسبوك).
ولأن المحيميد حريص على ترويج منتجه السردي، فهو قد نجح في الوصول إلى المركز الثاني من قائمة جائزة ميتشالسكي في سويسرا للرواية العالمية، وما كان له أن يصل لذلك المركز لولا أن روايته « فخاخ الرائحة» كانت قد ترجمت إلى لغات عدة، فصدرت بالإنجليزية عن دار بنغوين الأمريكية، وعن دار آكت سود بالفرنسية، وعن دار آيسارا بالإيطالية. ثم ظهرت عنها دراسات ومراجعات نقدية في عدد من المجلات والصحف الثقافية من أبرزها دراسة للأمريكي بنجامين ليتل في جريدة نيويورك صن، ودراسة في جريدة اللوموند الفرنسية. هذا ما أثمرته جهود يوسف المحيميد في حله وترحاله، فأين الخطأ فيما يقوم به؟
ما يميز يوسف المحيميد عن غيره من كتاب الرواية، إلى جانب موهبته الإبداعية، هو وعيه بأهمية ترويج منتجه السردي، ولنسمي الأشياء بأسمائها، هو تسويق لذلك المنتج، فالسوق لا يدق على بابك وأنت تنتظر بالداخل، لن يعرف بقيمتك أحد وأنت (تغمز في الظلام)، بل يتحتم عليك أن تذهب أنت إلى السوق وتبحث عن المستهلكين وتتبع دوائر الضوء وتنخرط في عملية معقدة من البيع والشراء والإعلان والتسعير. يقول يوسف المحيميد في كلمة الشكر يوم تكريمه في جدة: « تعلمت أن الكتابة ليست لعبة، وأن النشر ليس مطابع الشريف في شارع الظهران بمدينة الرياض، تلك المطابع الصغيرة التي احتضنت مجموعتي القصصية الأولى، بل إن النشر عالم ضخم مليء بالجواهر والحيتان، حيث لكل شيء قيمة، حتى صورتك وابتسامتك لها سعر وحقوق ملكية».
ما قام به المحيميد من جهود في الماضي ليست من صميم عمل الأديب. في البلدان المتطورة لا يغامر كاتب بالنزول إلى السوق بمنتجه الفكري إلا في معية وتحت حماية وكيل أعمال. لم يكن أمام يوسف مفر من لعب هذا الدور المعقد الذي أضاع الكثير من وقته وجهده وطاقته الإبداعية في اتصالات مضنية وعد النسخ وتحميل الكراتين واستلام الرجيع وإعادة الطباعة وملاحقة الحقوق. بلادنا العربية ليس بها مكتب واحد يقدم لك هذه الخدمة الحيوية! أنت ككاتب عربي تترك عصارة ذهنك في يد ناشر لا يملك من أمر عمله إلا الاستلام والتخزين، ثم البيع البطيء في منافذ بيع لا يرتادها أحد، ثم يعتذر لك بأنه لم يستطع التخلص من نسخك القليلة، فيعيدها لك أو يسلمك، إن كنت محظوظاً، في مقابلها مبالغ زهيدة.
في الغرب وكيلك، حين يلمس عناصر النجاح في عملك، يهيئ لك الفرص ويسعى لتسويق كتابك: يوقع معك عقدًا واضحًا تعرف فيه حقوقك وواجباتك، ينظم لك جداول الظهور وإلقاء المحاضرات وحفلات التوقيع ومقابلات الصحف والتلفزيون وربما الإعلانات وطباعة النسخ التالية وفرص الترجمة بلغات العالم الحية، ثم يقوم بتنظيم برامج تسويقية لكتابك في بلدان العالم، ثم يتولى ترشيح اسمك لنيل جوائز هنا وهناك تزيد من وهج كتابك وتعطيه قيمة ووجود. ما الذي أغضب الغامزين اللامزين يا ترى؟ موهبة يوسف المحيميد الكتابية، أم جهوده كمدير أعمال لنفسه؟
في كلمته يوم تكريمه قدم يوسف المحيميد شكره لوكيله الأدبي (السيد توماس)! ها هو قد وجد ضالته في الغرب وأوكل مهام الترويج والتسويق لمن يعرف أصولها ولمن يمتلك الوقت والخبرة للقيام بها على أكمل وجه، لكنه للأسف الشديد، لن يرتاح من هذه الأعباء مع ظهور روايته القادمة، فالسيد توماس يستطيع مساعدة يوسف حين تتم ترجمة تلك الرواية، حينها سيتقدم ليمارس دوره خارج المملكة وبالنسخة الأجنبية في أسواق وأوساط ومحافل أجنبية. أما في الداخل فالأمر متروك للكاتب، وكل منا وشطارته: إما أن نتحرك في كل اتجاه: نطارد دور النشر ونتصور مع الكتاب العالميين، وإما أن نغلق الأبواب علينا وندس رؤوسنا في كراتين الرجيع من كتبنا! إما أن نكون كتاباً فقط، وإما أن نلعب دور الوكيل أيضاً.
هذا هو الاختيار أمامنا، لكن ليس من حق أحد منا أن يتخذ مكانًا قصيًا ويمتعض من الضوء الساطع على يوسف المحيميد، فهذا جهده قد أثمر ولكل مجتهد نصيب. إن تكريم الوزارة لهذا الكاتب المجتهد والأديب المتميز لهو أمر مبهج حقاً، كان وقوف معالي الوزير عبد العزيز خوجة على المنصة مهنئًًا ومرحبًا ومشجعًا كممثل أعلى للوسط الثقافي، وقوف الأهل على باب البيت مرحبين بعودة ابنهم الناجح، وحين صافحه وسلمه شهادة التكريم، دخل يوسف المحيميد إلى قلوب أهله التي تنبض فرحًا بفوزه وتفوقه، سعادته سعادتهم وإنجازه إنجازهم.
-
+
lamiabaeshen@gmail.com
- جدة