ربما في هذه الأيام نعيش كسعوديين لحظة جديدة لم نعرفها من قبل، أننا ندرك قيمة حرية التعبير ونقاتل من أجلها، وبمعاني مختلفة ندفع أثمانا متفاوتة في سبيل تمكين أنفسنا ومجتمعنا من هذه القيمة الإنسانية، والسعي في تنويع الوسائل التي يمكن لنا أن نعبر من خلالها أو العمل على رفع سقف كل وسيلة على حدة هو مما يمكن أن يعكس وعيا اجتماعيا بمبدأ حرية الفرد في التعبير، فإذا كان ماوصلنا إليه ليس مرضيا للكثير منا ولا زال يحمل العديد من التناقضات عند تقدير بعضنا لبعض في أحقية هذا الحق الشخصي، فإن مجموع هذه الإشكالات يبقى جزءاً أساسيا من مخاض التجربة البكر علينا، وجزء من أعراضها التي عرفتها مختلف المجتمعات الإنسانية أثناء مرورها بهذه اللحظة المهمة من الوعي.
تتكرر كثيرا بيننا اليوم عبارات تحفظ للآخر حقه بالاختلاف، وإذا كانت مشروطة من كل طرف بما يعتبره تعديا على معتقده، فإن السؤال هنا ليس في اختلاف الشروط بين طرف وآخر، بل كيف أصبح البعض يرفع لافتة احترام تعبير الآخر عن رأيه في كل مقدمة وخاتمة لحديثه، معتزا بنفسه أنه يفعل ! تماما كما يجد من الآخرين حوله ثناء ومدحا بسمو خلقه ! والسؤال هنا كيف تحولت قيمة التعبير إلى خلق بدلا من حق ؟
تاريخيا المبادئ والقيم ليست هي ماوراء حرية التعبير التي تعيشها المجتمعات المدنية اليوم، إنما شرط الواقع السلمي هو من قدح هذه الشرارة الصعبة في المجتمعات الانسانية، وهو فقط من سن القانون ليكفل استمرارها بعيدا عن كل مبادئ الناس وأخلاقياتهم وتقلب المصالح الفردية والجماعية، فلماذا نعيد صياغة هذا الحق المدني بتصور أخلاقي، إن التصور الأخلاقي لحرية التعبير هو فكر بدائي جدا، فالإنسان قبل تمدنه كانت علاقته بالآخر محكومة بأخلاقه والعكس صحيح، فأخلاقياته مع الآخر كانت أيضا محكومة بعلاقته به، أما المدنية فإنها في أبسط صورها قد أعادت رسم العلاقات بين أفراد المجتمع بحد أدنى هو القانون، وتركت الحد الأعلى للناس، الأخلاق هي أحد نتائج التكوين المثالي في الإنسان، ومابين شخص وآخر سيتفاوت الإنسان في خضوعه لتكوينه المثالي ولأخلاقه كحد أعلى، ومن هنا تبدو كلماتنا عن حفظ حق الآخر في التعبير أثناء الحوارات والنقاشات العابرة أو الرسمية حتى ماهي إلا حالة بدائية لا تدرك تماما حرية التعبير كمفهوم حديث أسس حقا مدنيا لا يتمنن به طرف على آخر.
ثمة مايلفت الانتباه في هذه الحالة أيضا، وهو أن تصوير حرية التعبير بهذه الصورة الخلقية سطح كثيرا من قيمتها الفكرية، لقد ضاقت مطالبتنا في هذه الحرية وانحصرت كثيرا في مساحة الرأي، وأكثر المتشدقين بها لا زالوا يقيمون وصايتهم المعرفية والسلوكية على الناس، لا يمكن لحرية التعبير أن تنهض وتحقق مفهومها المدني بالشكل الذي نتوق إليه إلا إذا عادلت مطالبتنا بها قدرتنا على التفكير الحر، وهو مايمكن أن فهمه من قول الناقد الكبير علي حرب بأن ليس على المفكر أن يطالب بحرية التفكير بقدر ماعليه أن يمارس فكره بحرية، لكن الذي يحدث ونعيشه اليوم كسعوديين هو أننا جميعا مشغولون بالدعوة إلى حرية التعبير بدلا من اشتغالنا على تحرير الفكر من كل الدعاوى بما فيها دعوة حرية التعبير، وإن كان الناشطون عبر التاريخ هم من رفعوا رايات الحرية فإن المفكرين والفلاسفة هم من اشتغل على مفهوم الحرية ورسم الرايات التي رفعها الناشطون، وللسؤال الدائر دائما بيننا بمن هم المفكرون السعودون أن يعود هنا بصيغته الأخرى، من هي الأسماء السعودية التي تشتغل على مفهوم الحرية وتأسيس لمقولاتها منشغلة بذلك عن الدعوة لحرية التعبير؟!
نفهم أن تكون مطالبنا بحرية القول والرأي مرتفعة ومستمرة ولا تتوقف، لكن المشكلة أن تتعثر هذه المطالب لحظة السلوك، لأن كل رأي حر لا يعني أنه يكفل الفعل الحر أيضا، وإن كان الاتفاق على حرية الرأي صعبا ويخلق صراعاته التي لا تنتهي فإن حرية الفعل والسلوك تخلق حروبا لا مجرد صراعات، من هذه المشكلة ندرك جيدا أن مانفتقده في هذه اللحظة هو تجاوز الدعاوى إلى الفكر، إن حرية التعبير بأقصى ماتصل له لا تعني مطلقا حرية التفكير، وإن كنا نرغب بأن نعيش مرحلة تغيير اجتماعي لا مجرد لحظة وعي علينا أن نوسع مصادرنا المعرفية بنفس سعينا على توسيع وسائل تعبيرنا، والأهم أن نعرف أن كل وسيلة نستخدمها ستحمل إمكانها المعرفي الخاص بها.
-
+
lamia.swm@gmail.com
- الرياض