الرباط - منتصر حمادة
لائحة عريضة من العناوين التي يحفل بها هذا الحوار، مع المفكر المغربي خالد حاجي، من الرسائل الفنية والأدبية والفكرية التي جاءت في آخر أعماله الروائية (رواية «عبد الرحمن والبحر» وصدرت عن المركز الثقافي العربي، بيروت - الدار البيضاء، ط 1، 2010)، إلى عبر قراءة المعارك السياسية والسياسية التي اندلعت خلال السنين الأخيرة في القارة الأوروبية بخصوص التعامل مع موضوع الهويات الوطنية، أزمة المآذن، وغيرها من العناوين والقضايا.
ما يُميز أعمال خالد حاجي، أنها حافلة بالأسئلة والأجوبة في آن، على غرار ما نطلع عليه في أعمال الراحلين علي عزت بيغوفتيش وعبد الوهاب المسيري، أو أبي يعرب المرزوقي ومصطفى المرابط وطه عبد الرحمن: لسنا أمام جهاز مفاهيمي يحتكر النطق باسم «الحقيقة العلمية» أو «الحقيقة الدينية»، وإنما أمام جهاز مفاهيمي يفاجئك بأسئلة مضادة، مؤسسة في الغالب الأعم على شعار «النقد المزدوج»، (نقد الذات العربية الإسلامية ونقد الذات الغربية، في شقيها الديني أو العلماني)، ويُدلي فيما بعد باجتهادات معرفية، من باب الإسهام في البحث عن أجوبة عملية على أسئلته وأسئلتنا في آن، ومُجمل الأسئلة الراهنة التي تؤرق بال العقل العربي الإسلامي المعاصر والعقل الغربي المعاصر.
خالد حاجي، أستاذ جامعي سابقاً بجامعة محمد الأول بوجدة (شرق المغرب)، شعبة الإنجليزية، خريج جامعة السوربون بباريس، مدرس الحضارة الأنجلو- أمريكية خلال القرنين 18 و19، وهو عضو مكلف بالبحث العلمي والعلاقات العامة بالمجلس الأوروبي للعلماء المغاربة ببروكسيل.
نقرأ للمفكر الجزائري محمد أركون في كتابه «قضايا في نقد العقل الديني»، أن «تجاوز التضاد بين الحضارات لم يتم عبر الدعوة إلى «اتباع الأخلاق، لأن المواعظ الأخلاقية لا تحل شيئاً»، مضيفاً أن «الأخلاق التقليدية عفا عليها الزمن ولم تعد قادرة على التأثير في الحياة الحديثة، بحكم مقتضيات الاتجاه اليوم، نحو فضاء جديد للمعرفة والتأويل والممارسة العملية».
كيف تقرؤون هذا التقييم الأركوني؟
- يصح كلام أركون من وجه، وقد لا يصح من وجوه. ولعل القول بعدم قدرة الخطاب الأخلاقي على حلّ مشكلاتنا في عالم اليوم، يجب ألا يكون مسوغاً للدعوة إلى نبذ الأخلاق، أو طرح الدعوة إليها جانباً. حين نتحدث عن الأخلاق إنما نتحدث عن منطق النبوة القائم على أساسين اثنين: الأمل والشهود. فأما الأمل فمصدره الإيمان القوي في الممكن، في إمكان أن يحمل الغيب ما يغير سياق الأمور؛ وأما الشهود فمعناه أن أصحاب الدعوة الأخلاقية، على خلاف الفاعلين السياسيين، لا يطلبون الفعالية السياسية، بقدر ما ينبهون الناس إلى ضرورة الأخلاق لأجل تجنب ما قد تكسبه أيديهم من قوارع وتجنيه صناعتهم من كوارث. قد يُلتفَت إلى الخطاب الأخلاقي وقد لا يُلتَفت إليه! هذا الخطاب يضع الناس أمام مسؤولياتهم، وعليهم أن يختاروا.
وأما ما يبشر به أركون من «فضاء جديد للمعرفة والتأويل والممارسة العملية»، فهذه أمور إذا لم تزد الطينة بلة وتُعجّل بنهاية الحضارة وكساد العمران، فهي لن تحدث تغييراً يُذكر. فهل عند أركون وصفة عملية لحل المشكلات المستعصية في عالم البيئة والسياسة والعلاقات الدولية اليوم فيخرجها لنا! غاية ما يدعونا إليه هو الاستسلام لموازين القوى العالمية تحت ذريعة الامتثال للأمر الواقع. والحقيقة أن الدعوة إلى الامتثال إلى الواقع دعوة لا تخلو من صواب متى ما جاءت مشفوعة بالدعوة إلى الأخلاق. وما المانع في أن نجمع اليوم بين «المعرفة والتأويل والممارسة العملية» وبين الدعوة إلى الأخلاق! مشكلات العالم اليوم لا تستدعي حلولاً تقنية فقط، بل أكثر ما تستدعيه حلولاً أخلاقية بالدرجة الأولى. فالإنسان كائن أخلاقي... قد تبلى أشكال الوعي وأنماط تمثل الأخلاق، ولكن لا تبلى الأخلاق. وقد نتفق مع أركون لو كان المقصود بـ»الأخلاق التقليدية» الوعي التقليدي بسؤال الأخلاق. هناك ضرورة لتحديث سؤال الأخلاق على ضوء مستجدات الواقع الكوني.
تبنّيتم بشكل صريح، في كتاب «من مضايق الحداثة إلى فضاء الإبداع الإسلامي والعربي»، خيار النقد المزدوج للعقل العربي الإسلامي والعقل الغربي في آن، وفي إطار النقد الموجه للعقل الأول، استشهدتم مثلاً، بطبيعة التناول الإعلامي العربي لذكري مرور ثلاثين سنة على اندلاع ثورة 68، حيث استنتجتم أننا لا نملك الشجاعة الكافية لنتحول إلى دارسين لتاريخ الغرب ولحضارته.
إذا انطلقنا من مُسلّمة مقتضيات «الزمن الأخلاقي الإسلا مي»، بتعبير طه عبد الرحمن، والتي تفرض على المسلمين، تحمّل مسؤولياتهم الأخلاقية اتجاه التحديات الكونية التي يواجها الإنسان والمعمور.
تأسيساً على هذه المُسلّمة إذن، منْ مِنَ المسلمين اليوم، يبقى مُؤهّلا أكثر لتولي هذه المهمة الأخلاقية والمعرفية في آن؟
- لماذا الطاووس لا يحسن الغناء، على الرغم من جمال صورته وريشه؟
عن هذا السؤال يجيب المثل العامي المغربي بأن السبب في قبح صوت هذا الطائر هو قبح رجليه. حين ينظر المسكين إلى رجليه ويقارن قبحهما بجمال ريشه، يشق عليه الأمر فيبدأ في العويل والصراخ، عوض الغناء مثل باقي الطيور. صرخة الطاووس ليست صرخة المزهو بنفسه، بقدر ما هي انتحاب اليائس من الطمع في تمام الجمال وكماله. ينطبق مثل الطاووس علينا، شرقاً وغرباً، مسلمين وغير مسلمين، عرب وغيرهم. فما أحوجنا إلى النظر إلى مواطن القبح فينا حتى لا نكون ضحية الانتشاء بالذات والزهو بالنفس. لا يخلو أحد من العيوب. لا الذات منزهة عن الخطأ ولا الآخر. من هنا يصح توجيه النقد إليهما معاً. من العبث توجيه النقد للآخر بغرض تنزيه الذات، أو العكس. فحيثما وليت وجهك وجدت ما يستحق النقد.
هناك خط رفيع يفصل بين النقد المتبصر والنقد المتهافت، سواء نقد الواقع الغربي أو نقد الواقع العربي الإسلامي. فالنقد لن يكون نقداً بناءً إلا إذا انبنى على معرفة بموضوع النقد. ومن الواضح أن الكثير من النقد عندنا ينبني على جهل، وتدفع أصحابه الرغبة في احتلال المواقع.
صحيح أن الخطاب الأخلاقي لا يُجَسّده حزباً أو جماعة أو جهة معينة. دعاة الأخلاق يعتبرون أنفسهم مجرد إصبع يشير إلى حقيقة متعالية، كلما برزت هذه الحقيقة وتجلت في الأذهان اختفوا عن الأنظار. وهؤلاء موجودون في كل أرجاء العالم، في كل الأحياز الثقافية والحضارية. قد يكون من المبالغة ربط البطولة الأخلاقية بالمسلمين. من ينظر إلى واقعنا يجد أننا لا نقدم نموذجاً أخلاقياً متماسكاً. بل قد نكون أبعد من غيرنا، متدينين وغير متدينين، امتثالاً للأخلاق التي نُبشّر بها في حياتنا وسلوكنا. وصحيح أيضاً أن الغرب لم يعد يقدم نموذجاً للأخلاق. لذلك فالمطلوب هو تحقيق قدر من التوافق الأخلاقي حول مجموعة من السلوكيات والأفعال بغرض تحديد وجهة لخلاص العالم؛ لم يعد المطلوب هو الإثبات النظري أو الإفحام العقلي بجدوى وأحقية «الأخلاق الإسلامية»، أو «الأخلاق المسيحية» أو «الأخلاق العلمانية». الأمر أثقل من أن ينهض به أتباع ملة واحدة، أو شعب واحد، أو جهة واحدة. والحق أن أكثر أنواع النقد الأخلاقي عندنا نفاذاً وعمقاً، هي أكثرها اطلاعاً على الفكر الغربي وتتبعاً للنقد الغربي ذاته للحضارة. لا يمكننا نقد الواقع الحضاري الحالي نقداً أخلاقياً دون تحصيل وعي شامل بالواقع الحديث، والغرب كما لا يخفى أكثر التصاقاً بهذا الواقع، صنعاً وتأثيراً وتحويراً ونقداً.
نحن في حاجة ماسة إلى ذهنية فقهية تحدد مجالات الأسئلة بحسب السياق. كثيراً ما أفاجأ هنا في أوروبا بأسئلة غريبة أظن أن السبب وراء طرحها هو الذهنية الفقهية الموجودة. أليس غريباً أن يسأل بعض الشباب في أوربا «هل يجوز إفشاء السلام أو مد اليد إلى الجار غير المسلم؟» هذا سؤال مستورد من بيئة أخرى، من فضاء ثقافي ومكان حضاري بعيدين، ولربما قد يجده طارحوه في كتب قديمة مرتبطة بسياق آخر، أو يصدرون في طرحه عن تصورات تحكمها روح التشنج في العلاقة بين الذات والآخر... لو بقي الإنسان على فطرته، لما طرح هذا السؤال إطلاقاً. فهذا السؤال يبدو سؤالاً خارج الزمن وخارج المكان، وبعيداً عن المنطق العقلي السليم. حتى والفقيه يفتي بجواز إفشاء السلام على الجار غير المسلم، يكون في الجواب مضيعة للوقت والجهد، وظهور بمظهر غير لائق بالمسلم.
مشكلتنا ليست في طبيعة الفتاوى الغريبة التي تصدر هنا وهناك، بقدر ما هي مشكلة عجز عن تأطير العقل المسلم وترقيته إلى درجة يحسن معها طرح السؤال واختياره. وظني أنه لن يتأتى لنا هذا الأمر حتى نرفع جاهزية المسلم الثقافية ونمكنه من التواصل مع العالم الحديث المحيط به ونرسخ وعيه بحيثيات السياق التاريخي الراهن.
يصعب فصل صعود أسهم الأحزاب اليمينية في العديد من الدول الأوروبية، كما تزكي ذلك نتائج بعض الانتخابات التشريعية. ما هي قراءتك للظاهرة، وهل يمكن قراءة أسباب صعود أسهم أحزاب اليمين، ضمن أسباب أخرى، بتبعات الأزمة الاقتصادية التي تمر منها القارة الأوروبية؟
- هناك شعور قوي يراود الإنسان المتردد على أوروبا أو المقيم في إحدى دولها، وهو شعور بأن القارة تشيخ وتهرم بوتيرة لا تخطئها العين الفاحصة. إن المتتبع للنقاش الفكري والجدل السياسي الدائرين بين النخب الأوربية يحس بانقطاع الأسباب بين أوروبا والأفكار الكبرى من قبيل تلك الأفكار التي عرفتها القارة في القرن التاسع عشر والتي كانت المحفز الرئيس على الإبداع. لا عجب وأوروبا على هذه الحال أن تنحو منحى الانطواء والتقوقع حول الذات وبالتالي النزوع سياسياً نحو التطرف. هناك قوى محافظة تعيد طرح سؤال الهوية داخل القارة العجوز بغرض التراجع عن التعدد الثقافي بحثاً عن سبل التحصن والدفاع عن الثوابت التي يقال أنها أصبحت مهددة. ولقد وجدت هذه القوى في أحداث الحادي عشر من أيلول وفي مقولة «خطر الأسلمة» ما يسوغ هذا النكوص إلى الخلف.
في هذا السياق - أي سياق الحديث الإعلامي المستفيض عن مخاطر الحضور الإسلامي الدائم على مستقبل أوروبا وقيمها - يجد صناع القرار السياسي أنفسهم مجبرين على طمأنة الرأي العام، ووسيلتهم إلى ذلك هو اللجوء إلى التشريع. إن التشريعات المتعلقة بالنقاب والمآذن هي في عمقها رسالة المقصود منها بعث رسائل باتجاه المجتمع مفادها أن أوروبا لا تزال قادرة على سن القوانين لاحتواء الحضور الإسلامي والتحكم في زمام الأمور.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، للقوانين المتعلقة بالظواهر الإسلامية علاقة بواقع الهجرة وبتحول الوعي بخصوص هذا الواقع. في البداية لم يكن من الضروري سن القوانين بغرض تنظيم العلاقة بين الدولة والمسجد، أو بين المجتمعات الأوربية العلمانية الحديثة والجاليات الإسلامية المتدينة، على اعتبار أن حضور المسلمين كان حضوراً ماراً، لا حضوراً قاراً. أما الآن وقد استيقن الجميع بأن المسلمين باقون، فقد ظهرت الحاجة إلى سن القوانين كوسيلة من وسائل إدماجهم وتسهيل انخراطهم في سياق المجتمعات العلمانية وتاريخها.
تتفاوت جملة القوانين الجديدة من حيث الأهمية والقيمة والوقع على الرأي العام والقدرة على إدماج المسلمين. ومن هذه القوانين ما يفصح عن قلق حقيقي موضوعي وينم عن حاجة المجتمعات الأوروبية لتنظيم علاقتهم بالجاليات المسلمة. من المفهوم أن تسن ألمانيا قوانين تشترط تعلم اللغة الألمانية على طالب الجنسية. بالرغم من كل أنواع الاعتراض التي يمكن أن تساق، تبقى مثل هذه القوانين مفهومة وتأتي تعبيراً عن حرص مبرر على رفع جاهزية الأقليات اللغوية بغرض ضمان اندماجها. لكن وبالمقابل، يعجز العقل عن إدراك طبيعة الروح الكامنة وراء قانون حظر المآذن أو تغريم النقاب. والراجح هو أنها قوانين تفصح، في أحسن الحالات، عن وضع نفسي يحكمه الخوف والتوجس من حضور الآخر؛ وفي أسوء الأحوال تكون تعبيراً عن مزايدات الغرض منها مغازلة الرأي العام واستمالة الناخبين وتعبئتهم حول أكثر القضايا مثاراً للجدل، ألا وهي قضايا الإسلام والمسلمين.
ما أحوجنا نحن، والحالة هذه، إلى الفصل بين القوانين المعقولة التي تهدف إلى إدماج الإسلام والمسلمين في الإطار العلماني حيث تنتظم الديانات المختلفة وتتعايش الأجناس المتنوعة؛ وبين القوانين المجحفة التي تجلب المضرة أكثر مما تجلب المصلحة، وتثير العواطف وتهيج المشاعر، أكثر مما تساهم في تلطيف الأجواء وتهيئ المناخ أمام التعايش. في هذا السياق، إذا جاز للمسلمين المطالبة بقوانين تكون ضامنة لحقهم في التدين وممارسة طقوسهم والتمسك بمعتقداتهم، فإنه لا يجوز لهم المطالبة بحقوق قد تتطلب مراجعة ثوابت المجتمعات الأوربية وإعادة ترتيب العلاقة بين السلط المتعايشة داخل هذه المجتمعات، خصوصاً العلاقة بين سلطة الديني وسلطة السياسي.
على المسلمين، من جانبهم، أن يعووا طبيعة السياق الأوروبي الذي شهد تراجع الشأن الديني عن احتلال أماكن الصدارة في الفضاءات العامة. وتبعاً لهذا الوعي يمكنهم التمييز بين ما يمكن المطالبة به وما لا يمكن المطالبة به. باختصار هناك خيط رفيع يفصل بين القوانين التي تأتي استجابة لطبيعة المرحلة التاريخية وحاجات المجتمعات الأوربية إلى تنظيم العلاقة بينهم وبين الجاليات المسلمة؛ وبين القوانين المجحفة في حق المسلمين، القوانين التي إن لم تُشهِّر بالمسلمين وتحشرهم في ركن الكائنات الغريبة، فهي لا تنفع المجتمع في شيء.
تنتهي روايتك الأخيرة «عبد الرحمن والبحر»، برؤى تفاؤلية، في عمل إبداعي مليء بالتساؤلات والرموز والأسئلة المعلقة، ويعرف تشابكاً بين عوامل الذات والغير (الآخر)، ومقتضيات علاقتنا بأسئلة الحداثة، دون الحديث عن قلاقل تشابك إنسانية المسلم (والعربي) مع إنسانية الغربي، أو دلالات استلهام والإحالة على ابن خلدون ونيتشه من خلال شخصية زارادشت وحي بن يقظان..؟
هل نحن إزاء عمل روائي صرف، أم إزاء عمل فلسفي تحت غطاء روائي على غرار رائعة «عالم صوفي»، للروائي النرويجي جوستن غاردر، وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا هذه الانعطافة على عمل روائي، عوض الاقتصار على تحرير متن فلسفي أو فكري صريح؟
- رواية «عبد الرحمن والبحر» محاولة لمد الجسور ما بين الذات و»آخَرِها»، ولتعيين سبل الخروج الصحيح من عالم الصمت إلى عالم الصوت، ومن مغارة التعبد نحو شطآن العشق، من التراث إلى الحداثة... الطريق صعب ومحفوف بالمخاطر والمهالك، وأسباب التشاؤم أقوى من أسباب التفاؤل. غير أن الأحداث تتناهي بعبد الرحمن إلى ضفاف الأمل، فيعيش على الأمل في أن يجد في مقبل أيامه ما يسعفه في التوليف بين متناقضات الروح والجمع بين أطرافها الموزعة بين ميولات وأهواء متنافرة.
البعد الروحاني حاضر بقوة في الرواية. فعبد الرحمن ينتقل من مقام إلى آخر، ومن حال إلى حال. تتقلب به الأيام من وضع إلى وضع، من مكان إلى مكان، من لقاء أناس إلى لقاء أناس آخرين؛ ولعل هذا التقلب ذاته هو أهم عنصر من عناصر صنع الحبكة الدرامية ونسج خيوط الرواية. ولعله لا مجال لإخفاء مظاهر التأثر بشخصية زرادشت وحي بن يقظان وغيرها من الشخصيات التي تحسب على ضرب من ضروب التخلق بمعناه العام.
ولعل السر في لجوئي إلى الرواية، عوضاً عن الاكتفاء بالمتن الفكري أو الفلسفي الصريح، هو شعور بوجود رسائل لا ينقلها إلا القالب الفني، الروائي والشاعري. باللجوء إلى الحجج والبراهين وأنواع الاستدلال المختلفة إنما يخاطب الإنسان عقل القارئ ويتوخى بلوغ النتائج المفحمة لهذا العقل. أما باللجوء إلى القالب الفني، خصوصاً ما تعلق منه بفنون الكلمة، فالكاتب يخاطب مخيلة القارئ وينفذ إلى أعماق من الروح فيحرك ساكنها ويسكن متحركها. وجدت في القالب الروائي ما يوسع حيز البيان، ومع التوسع في البيان تزيد إنسانية الإنسان سعة، ذلك أن ما يميز هذا الإنسان عن سائر المخلوقات هو كونه كائناً بيانياً. يفهم العالم ويعبر عنه بواسطة الكلمة وأشكالها وفنونها، ومنها فن الرواية.
-