يشرع القاص رشيد الصقري في تدوين مذكراته الدائبة حول إنسان هذا الزمن وذلك من خلال مجموعته القصصية الجديدة «حكايات مجهولة»، فقد ظلت إرهاصات الحدث المعبأ بالمعاناة هي ما يشغل الراوي لبث شكواه منذ النص الأول «الكلمة الأخيرة» حينما تحل في الناس حالة من الجحود والنكران لكل ما هو إنساني على نحو ما فعله شيخ القرية بطبيبهم الذي بذل ما بوسعه من أجل أن يزيح ولو النزر اليسير من عذابهم، وأن ينتصر لهم في حربهم ضد الجهل والمرض لكن الوعي ظل هو المعضلة.
في القصص التالية مراوحة بين التوسط والقصر، حيث يأتي كل نص محكوم بما لدى الكاتب من وعي ودراية فيما يقوله عن الشخوص، وبما يدركه من أحداث رامزة للكثير من الصور السلبية التي تحتاج منا إلى تدخل سريع من أجل معالجتها والتخلص من آثارها الآنية والمستقبلية.
فالقاص الصقري لا يكل أو يمل من عرض صور الإنسان المعاصر الذي لم يفلح من وجهة نظره في شق طريقه نحو الحياة الجديدة في وقت لم يوفق في استدراك الرسالة المعبرة للماضي فتاهت خطاه وبات مترنحا على نحو قصة «حكايات مجهولة» التي حملت اسم المجموعة.
فلو توقفنا عند هذه القصة على وجه التحديد سندرك أنها حكاية أعدت بحذاقة متناهية وإن اتكأت على عنصر الألم الإنساني الذي قد لا يكون للبطل دور في صنعه إنما بات البطل مدفوعاً بحجم ما يستدركه الكاتب من استقصاء لسقطات هذا العصر الذي اختلفت فيه الموازين وتعددت المشارب وجنحت الأهواء.
فالبطل في قصة «حكايات مجهولة» وقع بالفعل في أتون حالة من الصراع الإنساني الرهيب الذي تجسد في وجود أمه المختلق، وهروبها بعد ولادته مباشرة ومن ثم موت والده وما يليها من تراتب منطقي يكرس حالة الضياع التي عاشها، لنخرج في نهاية تأملنا لهذه المشاهد والحكايات سلسلة منتظمة من الصور الأليمة التي لا تزال تتكرر في كل زمان ومكان حتى وإن ادعى البعض أننا بتنا عصريون ومكاننا أنيق ونملك المال الذي بات يجري بين أيدينا بغزارة لكن عقولنا لا تزال تتفتق عن ممارسات من الأولى أن لا يكون لها أي وجود.
في القصص القصيرة جداً والتي بثها الصقري بين ثنايا مجموعته تعمد إلى استخلاص الفكرة الوامضة وضغطها من خلال جمل متقنة يرمي من ورائها إلى نقد المجتمع وممارساته على نحو قصة «الوصاية» حينما يستدرك على الشخوص أمر أخطائهم المتكررة وهم يعيدون سيرة الوصي على مال اليتامى وزواج الوصي بأمهم، فهي صورة تعجب من تكرارها رغم ما فيها من حيف وظلم وعدم مواءمة، إلا أن الكاتب في هذه اللوحة نشد إظهار الحجم الهائل من الرياء في هذه الشخصية المتورمة (الوصي).
المعاناة الإنسانية في القصص هي الوعاء الذي يشتمل عليه عنصر السرد للكثير من المواقف المعبرة، حيث يلتقط الكاتب من خلال هذه التراسلات الدائمة للهم اليومي فرصة أن يناجز الواقع ببعض ممارساته السيئة.. تلك التي لم تتغير أو يطالها التطوير والتجديد، لأنه يدرك أن حكاية الألم والنحس والمعاناة متأصلة في ذات الفقراء والمعوزين وأهل القرى المعذبة حتى باتت كما يصفها في قصة «كابوس جدي» أنها متوارثة من جيل إلى آخر وربما يفاخر البعض بما يحمله من أحزان وهموم وجهل ومحاولة تنصل من مشروعية خطاب الرفض لكل ظلم في أي زمان ومكان.
فما يكشف حجم المشكلة الاجتماعية في قصة «كابوس جدي» إلا النقد والمكاشفة وفضح الواقع المر الذي يتناسل يوماً بعد آخر، على نحو حمل الراعي لوصايا من سبقه دون أن يعمل عقله بتلك المقولات التي من المفترض أن تكون أثرا بعد عين.
وظف القاص رشيد الصقري اللغة بشكل متميز وانتخب لنصوصه مفردات غاية بالتلقائية والتوازن، فلم يكن هناك أي تجشم أو عناء في استخدام اللغة، بل توازت النصوص في عرضها من خلال أسلوب مقبول ومنطق حواري متزن جعل من الفكرة ميداناً أساسيا يستشرف منه حالة النوير لصنع معادلة جمالية تؤصل لأهمية النص القصصي وهذا ما ذهب إليه الصقري في ثنايا هذه المجموعة الشيقة.
* * *
إشارة:
* حكايات مجهولة (قصص)
* رشيد سليمان الصقري
* مؤسسة الانتشار العربي ـ بيروت ـ 2011م
* تقع المجموعة في نحو (84صفحة) من القطع المتوسط