«لدى كل منهم سر يحاول
قول ما يعرف وامتلاك ما يريد
لسانهم معتقل ويسعى لحل العقدة «
هوغو
تسير القافلة الروائية السعودية في مسارين مقلقين:
الأول: نسخ الواقع وفي مرحلة أرقى وأشف في قول ما نتمنى وجوده في الواقع. يتصل بذلك الرواية السيرة الذاتية.
الثاني: الاقتصاص التياري -إن صحت التسمية- ومن طرف واحد لأن قطب المنافسة لا يهتم بالرواية ولا يهتز لها، فانطلق القطب الأول لا يلوي على شيء إلا إشهار الرواية كسلاح ينتقم فيه من ممارسات القطب الثاني، وهذه أدلجة تتجه بالرواية للنفق المميت حيث النفاد الإنشائي.
وفي هذا المقال سنحاول مناقشة هذين المسارين لارتباط كل واحد منهما بالآخر، فعلاقتهما ببعض علاقة خاص وعام وفرع وأصل وفرد وكل:
الواقعية المفرطة..
ويتصل بها كما أسلفنا قول ما نتمنى عيشه واقعياً.
الاقتصاص التياري..
لا أتهم الرواية السعودية بفقر الخيال بل بالخيال الفقير، فهو -أي الخيال- ليس عنصراً أصيلاً في جل ما كتب بأيدٍ سعودية، ولا أدري هل هي سطوة الواقع أم الرغبة الجامحة في صعق وإطراح ما لا يروق لنا من أفكار وتوجهات حكمت المجتمع ردحاً طويلاً وكانت الرواية الضحية بحيث تحولت إلى وعاء يفرغ فيه الأديب مكبوتاته الفكرية وانفعالاته المكتومة، وإن كان قدر من ذلك مطلوب إلا أن الرواية كجسد يتشكل بين يدي الكاتب لا ينبغي لها أن تكون صورة للواقع بتحوير بسيط، فهي بذلك تخرج عن الجنس الأدبي المتأنق الرائع.
(الرواية)
الرواية جسد مستقل تماماً عن الواقع وشروط الواقع ولا يعني بذلك أنها هروب من الواقع، فالروائي الذي يحاول التملص من الواقع ما هو إلا غائص حد أذنيه في الواقع وإلا لما حاول النفاذ بجلد نصه من الواقع، لا بد من الخيال والذي يأتي على جميع عناصر الرواية (مكان - زمن - شخصيات -...) لا بد من حيوات أخرى، لا بد من أجزاء مهملة من العيش الإنساني أن تطفو على سطح الرواية، لا بد من نقل الرواية من الواقع المعيش إلى واقع الرواية الخاص بها عبر أنبوب الخيال ومعمل فوضى السرد وقول ما يحلم به الكاتب وما يرسمه عن الأشياء في مسودته الخيالية، بمعنى أنها أي الرواية رحيق يخرج من الروح لا مسكوكات تخرج من العقل، وبذلك تحكي لنا الرواية الواقع في قالب بعيد كل البعد عن نتن الواقع، وبذلك تكون بناية مستقلة تمام الاستقلال. لا أقترب بهذا الطرح من الواقعية كمذهب بنقده أومناقشته، بل أنا هنا أحاكم الرواية السعودية المندلقة بكثافة حتى وكأننا بلد المليون روائي.
(رواية مناسبات)
وما أتعس شعر المناسبات فكيف برواية المناسبات، إن أول ركيزة للرواية العالمية والتي نرنو لها ونفر إليها بعدما تنال البوكر رواية سعودية لا أدري كيف نلتهمها فإذا بها ثقيلة عسيرة الهضم مثقلة بالمناسبة التي قيلت فيها ليس لها امتداد في الزمن ولا في التاريخ الإنساني، نعود بسرعة لأي رواية إنسانية تحكي الإنسان ومعاناة الإنسان سواءً جاءتنا من البيرولماريوفار غاس يوسا أو جاءتنا من اليونان لنيكوس كازانتزاكي حيث أعمال الإنسان الطيارة في أثير الإنسان في أي زمان ومكان بلا مبالغة. أنعجز أبناء جزيرة العرب أرض الشعر والخيال واللغة والبيان أن ننتظم في سلك الأمم المتحضرة ونهدي الإنسان عملاً روائياً بحجم التاريخ والحضارة التي توالت وما زالت على هذه الأرض البكر التي لا تكاد تنعزل حتى تعود مرة أخرى لمسرح الأحداث والتأثير العالمي على كافة الصعد. نحن لا نريد البوكر ولا إشادة النقاد الوطنيين، فالأمر لا يحتمل الفزعة الثقافية. نحن ننتظر رواية لأديب ذي طمرين يخرج من جبال تهامة أو الساحلين أو قلب نجد أو صحراء الشمال يرفعها بيدين مرتجفتين كطفل ولد من النور ليضيء الطريق لأعمال أكثر إنسانية وتداول عالمي كأدب سعودي يلفت أنظار النقاد والمهتمين بحق لا بتعاطف وتشجيع أطفال على المشي أو نطق الأبجدية كما كان يفعله معنا إخواننا المصريون في بواكير الأعمال السعودية. أما آن لهذا الطفل أن يشيخ وينطق بالحكمة..!؟
ليست ورقة منهجية بقدر ما هي خاطرة صيف لا أدري فقد هربت من شمس الرياض لضباب السودة محتضنا (زوربا) بعدما طلقت (بنات الرياض) و(حمام بريدة) و(نساء المنكر) فتغير علي الطقس وعطست فهي إذن عطسة ثقافية الحمد لله.. لقد أمعنت الرواية السعودية في نقل الواقع وأمعنت في تصفية الحسابات وأمعنت في الإيديولوجيا واتكأت على التابو بشكل صارخ، إنها لا تستطيع أن تنهض بمفردها كرواية، كلوحة فنية مرسومة بريشة الخلود أبداً، إنها لا تضمن الوجود إلا بمشهدين جنسين أو بمهاجمة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو نقد بدايات الصحوة أو بإظهار النفاق الاجتماعي. إنها تنهض بالموضوعات والموضوعات المكررة. لقد تحولت إلى وثائق تاريخية مزورة تصف حقبة زمنية وتشهد على عصر من وجهة نظر الكاتب إنها ممعنة في المحلية وأحداثها باردة لأن أحداثنا باردة نسبياً فافتعل كثير ممن يكتبون الرواية الممنوع واصطنعوا المشكلة وناحوا عليها بأسلوب فني متواضع وخيال فقير بينما الرواية العالمية يتلطخ بعضها بالوثنية أو الفضائحية وليس شرطاً أن نجدف ولا أن نتخالع لننتج عمل ضخماً يستحق العناية، فهذه الآداب الخالدة لا تتكئ على هذين العنصرين البتة بل على الخيال الإنساني العميق والمسكوب بعناية في قالب فني أخاذ وعلى الأفكار والأسئلة والشروط العالمية المشتركة بين من يقطن المسكونة.
t-alsh3@hotmail.com