بين السماء في مشرق الأرض ومغربها لرائيها اختلاف هو الليل والنهار.. وبين البحر لمن به قوته ومن به فؤاده اختلاف هو الخير و الغدر.. وبين المواقف حين امتطائها اختلاف هو الصواب والخطأ.. تباين تفرضه قوىً ترسم المسار وتحدد الاتجاه؛ فتُلبِسُ المجرَّد ثوب الصفة.. والثوب يُخلَعُ ويُرتدى.. يبقى ويُبَدَّل..
تتبدل الرؤى والمواقف فذاك الذي كان بالأمس يمجِّد نراه اليوم لمن مجَّد يهجو! وذاك الذي كان لخير أحدهم يعدد نراه اليوم لمثالبه يُنشِد.. فكيف إذاً؟
كيف تبدّل الموازين كِفافها؟ ألضعفٍ يُلزِم ارتداء ثيابٍ لا تروق للابسيها إنما لمن لُبسَت له؟ أم لقوةٍ لا يضيرها تحسُّس الجسد من خامة الرداء؟
كلُ هذه الأسئلة وغيرها يجعلنا نعيد النظر في ثوبين و رداءين يملآن سوق الحياة.. لابد وأن يرتدي أحدَهما كل موقف..
(صح) أو(خطأ).. أتذكر أنه كان من الأسئلة المحببة لنا أثناء الامتحانات (كطلاب) كونه يتيح لنا المجازفة (السريعة)..و(للمعلمين) أيضاً كونه يتيح لهم الحكم (السريع).. اليوم أتساءل كم يعرِضُ لنا هذا الخيار في حياتنا وواقعنا بعيدا عن أوراق الامتحان.. وكيف يقيمنا فيه الآخرون ومدى سرعة حكمهم.. وكيف ننظر نحن لتقييمهم؟
***
كلما حاولت العودة بذاكرتي للوراء لا ستجلي هذا (الصراع) في اختيار الإجابة المناسبة بين (صواب) و(خطأ) أجدني أرى أن جيلي قد عاش الصراع في شتى صوره وأنماطه وبمختلف أدواره.. حتى أني أكاد أجزم أنه بات بفعل (العِشرة) تركيبة نفسية لهذا الجيل تظهر بشكل أو بآخر كلما وجدت لها متنفسا.. فمن الصراع الفطري بأبسط صوره إلى صورته المركبة والمعقدة التي نمت تتغذى على عقولنا وأفكارنا واتجاهاتنا ليل نهار بمباركة كريمة من (الإعلام) بشتى صوره؛ فهذا الصراع العربي الإسرائيلي، الصراع العقائدي، الصراع الاقتصادي ،الصراع الاجتماعي، الصراع الرياضي إلى صراعات أخرى تصرع رؤوسنا كل يوم مذ سمعنا آباءنا يحللون ويفندون صراعات جيلهم في حرب ثلاثة وسبعين والعدوان الثلاثي والنكسة وغيرها.. إلى الصراعات العقائدية التي نراها في أبسط صورها المتمثلة في التيارات والتحزبات وصولا إلى أعقدها المتشكلة في نظريات المؤامرة، ومنذ أن قرأنا وسمعنا الصراعات من أجل الموارد، والصراعات العرقية والأهلية إلى الصراعات اللونية الرياضية وغيرها كثير.. كل هذا عاشه جيلي روايات يتلقفها من كل صوب حتى أضحى الصراع بين (الخطأ) و(الصواب) في داخله بوابتان لدهاليز كالحة الظلام قد تُذكي الصراع بداخله لأجل (الصراع) فقط.. وتصنع فيه تكوينا نفسيا من الممكن إثارته فيه حتى بمجرد (مزحة)! تُرديه مجازفة (سريعة) وحُكم (أسرع)!
***
أؤمن بأن الصراع ليس وليد جيل بذاته.. وأن وجوده قد سبق حتى وجود أبينا آدم عليه السلام.. لكني أستثير السؤال: هل الصراع حين تكثر أطرافه وتتشابك ميادينه معركة بقاء للأقوى أم للمُحِق؟ وهل الحق في تلك الميادين صورة (واحدة) يراها المتصارعون بذات الصفة والرسم و اللون؟ أم أنه مزارع مختلفٌ ثمرها يتغذى كل طرف على ما لذ له منها؟
لنعرف الجواب: لابد أن نعرف أولا كيف نضع علامة (صح) أو علامة (خطأ) أمام كل موقف..
و هو ما أحالته الأحداث سؤالا صعبا لم نعد نستسيغه كما كنا ذات يوم..
***
«أريد وأنفر.. أي جنونٍ حياتي؟
أيّ صراعٍ رهيب؟
لماذا أغني , لماذا أعيش؟
ومن ذا أصارعه؟
من يجيب؟»
(نازك الملائكة)
almdwah@hotmail.com