لقيت أبا الحُلّيسِ أسفل نعمان الأراك، فوقع في نفسي أنه قافل من عكاظ، فسلمت عليه بتحية الإسلام، فأشخص إليّ عينيه ثم قال: عمت مساءً.
فقلت له: ما شأنك يا أبا الحُلّيس؟ أراك واجماً تنكُت الأرض بعصاك.
فقال: والله ما أدري. فقد وافيت الموسم وما تيقّنت. أهو هو أم ليس بإياه؟ فقلت له: خبرك، وما أنكرت من شأنه؟
فقال: خرجت قبل هلالين من عند أم الحُليس، بثلاثة جلود مدبوغة أحدها جلد نمر، وبعدلين من تمرٍ وإقط، وبنحي سمن قايضت به ريش نعام أعجبني فاحتملته، وكنت على عِدةِ مالٍ أقتضيه من ابن سريج بائع الزيت، فإنه اشترى مني قبل عام ثلاث قنانٍ آجلةً بضعفين، وكنّا على أن نلتقي في موسمِ قابل، ومعي فوق كل هذا قصيدة استكتبتها في رقعة جلد بالية أسأل النابغة عنها هذا الموسم، وحين وافيت السوق وجدت به قوماً لم أعرفهم، فما عهدت النابغة وحسان والأعشى ممن يلحنون في الشعر، ووجدت قسّاً قد سقطت فصاحته من فوق ناقته مغشيّاً عليها، لأخطاء فادحة كان ينطق بها وهو من هو، وما كان قبل اليوم يخطئ في حرف، فيا لله للرجل؟!، وفوق هذا فقد ملأت أخفاف الركائب عيون النظّارة رملاً، وحشت حوافر الخيل آذننا من الغبار قبل الشعر، وكنت أسأل من لقيتهم ممن تقلدوا قلائد من ورق، أين زهير بن أبي سلمى، فيقولون: من زهير؟ لا نعرفه؟ فقلت في نفسي: والله ما هو بعربي من لا يعرفه، ثمّ وافيته في ناحية من السوق ينشد:
أمن أم أوفى دمنة لم تكلم بحومانة الدراج فالمتثلم
فاستمعت إليه حتى أتى عليها، فما ازداد في عيني إلا رونقاً وبهاءً.
ولقيتُ رجلاً يعطي كل مارٍّ أوراقاً ويردد: صحيفة... صحيفة....
فقلت له: والله لا أعرف إلا صحيفة المتلمّس، وإنها لشرّ مستطير، وقد كان لي في صاحبي عبرة، فرميت بها إليه، فرطن عليّ بكلام لم أفهمه، ولكنه من أسوأ الخلق عاهة، ولعلّه من عجم العجم الذين في بلاد الهند أو السند.
وكنت رأيت رجالاً كثراً يلبسون السراويلات تحت الأزر، وقد فردوا عمائمهم على الرؤوس، وأسبلوها على الظهور والأكتاف، وعصبوا رؤوسهم بسواد، وحين استنطقتهم تيقنت أنهم أعراب تشوبهم لكنة، ولا أدري والله ما أصابهم.
ثم سمعت صوتاً ندياً جهورياً يردد: الله أكبر.
فانصرف إليه الناس وتركوا ما هم فيه، فتيقنت أنها دعوة محمد التي سمعت عنها.
وعرضت بضاعتي فلم يشترها مني أحد، فكيف بالعودة إلى أم الحليس بخفّي حنين.
فقلت له: والقصيدة؟ قال: عرضتها على نابغتهم فإذا به لا يحسن قراءتها، فأخذتها وانصرفت، فقلت: هل لي بها؟ فقال: حبّاً وكرامةً، فلمّا ناصفتها، قال: لأنت والله تشغلني عن أمّ الحليس، فخطف الرقعة مني وانصرف، وكان مما أذكره فيها: لملمت من شعث الأيام تفريقي الدمع مائي وزادي بلة الريقِ أسابق الموت والأرزاء صافنةٌ أساوم الشمس في زهري وتوريقي يوماً سأدنو على الآمال في غسقٍ أنازع النفس كأساً ذات تعتيقِ.
جامعة أم القرى