أشعر كالأرض بالخريف والجفاف، وأنتظر الماء والمطر، أنتظر غيث السحابة والكتابة، فالماء الحياة، أصل الحياة. والكتابة ماءٌ وحياة، والقصيدة الحيّة ماء.
ولئن كان هنالك شعرٌ من تراب، وشعرٌ ينثر الموت والخراب..
فهنالك شعرٌ يهطل من غيم الروح، وسحاب الذاكرة، شعرٌ هو الماء المعين والسلسبيل على هذه الأرض، و(على هذه الأرض ما يستحق الحياة.).
وهذا الشعر هو فيض مزنك وغيمك وسحابك.. بعيدة كنت كسماء، أم قريبة كنبضٍ وأنفاسٍ ودعاء.
فبعد أن كنت طفلة المطر، ها أنت المطر بإيقاعاته وتجلياته، حكمته وعقله وجنونه، وها هو ذا مطرك يروى الأرض اليباب، ويزرعها حقولَ بهجةٍ وغناء، ولأنت الماء كل عطشٍ، وكل ارتواء:
لا شيءَ في الدنيا مثيلُكْ/
غير المياهِ وذا دليلُكْ.
لما شربتُكِ فارتويتُ/
وقضّني عطشاً بديلُكْ.
أوْ أمطرتْ سحراً يداك/
وجادَ قبلَكِ سلسبيلُك.
أو أشرقت منكِ الحياة/
فباركَ الإصباحَ ليلُك.
ما كنتُ بدْعاً في هواك/
الماءُ يا منْ لي خلُيلُك.
وها أنا اطرق أبواب الشتاء في الخريف المخيف، وأنقر نوافذ القرى العالية بحثاً عن غيمك، يمنّيني النسيم، وتغالبني الريح..
ها أنا أعود منك إليك كما الليل والنهار، والعتمة والضوء، والفيء والهجير.
أنتِ يا نهل، يا علل، يا نهراً ينبع من أعالي الذاكرة المؤثثة بالجمال والدهشة، وكنوز الطفولة، ومغانم الشباب، ويصبّ في فورة الشعر، وفتنة اللغة، وجنة الإبداع.
حتى حشود الجراح، وجموع الوجع، وآثار الخيبات والانكسارات والهزائم، آثار الفوضى، ومعاول الهدم.
يقولون: الربيع، أقول الخريف والأفول.
ويقولون: الفوضى الخلاقة، أقول هي الفوضى التامة: فوضى الخراب والاحتراب والفتنة والدمار.
أي ربيع، وأية ثورة بناءة تلك التي تحرق الأخضر واليابس، وتحرق القلوب، وتدمر الحياة والناس، وما بنته الأيدي الماهرة، والعقول المحبةُ الجميلة، وتمنع الماء، وتزور الواقع والوقائع، وتشوش المستقبل، وتلوث كل شيء.. الفطرة والطبيعة والأفكار والتاريخ والهواء!!
سينجلي الغبار، والدخان، ولو بعد حين، وستظهر الحقيقة المجردة للعيان..
وسيعود الماء للجريان.
أما أنا الآن.. فسأبحر بقاربي الخشبي، الذي صنعته من شجر الحزن النبيل، عبر جداولك إلى نهر الحياة، نهرك العظيم.
لعلني أستعيد عافية الحياة إمّا ترقرق ماؤك، أو انهمر شلالك.
فلا تغيبي في الحقيقة، ولا تغيبي كحلم وخيال، ولا تغيبي كحبيبة، بل احضري كصاحبة رحلة، ورفيقة درب، ومحرضة على الجمال:
هاتي يديكِ
إذا أتيتكِ صاحباً/
ضاقَ اتساعُ الأرضِ
أبغي راحتيكْ.
كم أحرقتني البيدُ
جمراً غاضباً/
هلّا خزنتِ العمرَ
في نهرٍ لديكْ؟!
بالله كيف تكونين الغياب والحضور معاً، وتكونين الحضور والغياب؟!
وكيف تكونين الوطن/ الحلم؟!
قالت: ألم تقل بأنني الغيم والقصيدة؟!
قلت: بلى، وسنعود معاً لنبنيَ ما تهدّم من جديد، ونرفعَ النشيدَ عالياً، سنرفعُ النشيدْ.
mjharbi@hotmail.com
* الرياض