لم أكن أصدق الخبر عندما سمعته لأول مرة عن وفاة العلامة تمام حسان يوم الثلاثاء الماضي في تمام الثالثة والنصف بعد الظهر، وذهبت أبحث عن هاتفي بقلق بين مكذب للخبر ومتمن تكذيبه إن كان صحيحاً، واتصلت على هاتفه فلم يرد، وكانت عادة أستاذي أن يرد على الهاتف -غالبا- بنفسه من الجرس الأول أو الثاني على الأكثر، لكن هذه المرة لم يرد، ولم يرد أحد غيره فانتابني شك بصحة الخبر، فقلت لا ربما لم يكن موجوداً، وقلت أتصل بأستاذي الدكتور محمد حماسة عبداللطيف وهو من أكثر المخلصين لتمام حسان ولعلمه فقلت له: السلام عليكم..إزيك يا أستاذي وأنا لم أقوَ أن أقول له: هل مات تمام حسان فلم تطاوعني الحروف فقلت له يا أستاذنا: لقد قرأت خبراً ولا أدري صحته فقال لي: تمام حسان؟ فقلت: نعم، قال: صحيح، هكذا الدنيا، ونحن ذاهبون للصلاة عليه الآن، وانتهت المكالمة وأنا أحاول أن أتماسك فلم أجدني إلا ودموعي تذرف مني على رحيل هذا الرجل العلم.
لقد تعرفت بالدكتور تمام حسان عندما كنت طالباً في دار العلوم بداية عام،1994ودرس لي في مرحلة الدراسات العليا، وكنت من أشد المعجبين بفكره ونظريته الرائدة: تضافر القرائن التي أرسى دعائمها في كتابه: اللغة العربية معناها ومبناها، ويأتي هذا الكتاب في المرحلة الفكرية الثالثة لتطور الفكر النحوي بعد كتاب سيبويه ودلائل عبد القاهر، ثم تشرفت بأن أشرف عليّ في رسالتي للدكتوراه لمدة ثلاث سنوات كان خلالها نعم المشرف والأستاذ والموجه والمعلم، تعلمتُ منه خصالاً كثيرة أتذكرها الآن كأنها كانت بالأمس، أهمها: احترام الوقت وتقديره فلم يكن يغضب الشيخ مني إلا تأخري أحياناً عن الموعد الذي ضربه لي، وله معي مواقف كثيرة كلها تدل على نبله وصفاء سريرته وحسن سياسته في التعليم، من ذلك الموقف الذي لن أنساه أبدا، أني عندما شرعت في كتابة عملي وأعطيته لأستاذي الدكتور تمام حسان ليقرأه ويضع عليه ملحوظاته وبعد فترة أخبرني أنه انتهى من القراءة فأخذت الأوراق وكنت أقلبها في الشارع الذي يسكن فيه فوجدت بالداخل خطوطاً، وبعض علامات الاستفهام، ومكتوب على الغلاف في الخارج بخطه الأنيق: استمر. وعندما تأنيت في قراءة ما فوق الخط وعلامات الاستفهام كنت أتعرف على أخطائي بطريقة جديدة ليس فيها جرح لطالب مبتدئ، وإنما دلت على رقي تمام حسان، والأغرب من ذلك أني كنت أخالف أستاذي كثيراً ظناً مني أن لدي شيئاً من العلم ولم يكن الدكتور يعلق على ذلك ولكن أذكر أنه كان يقول لي: اختلف مع من شئت لكن تحرَّ اللغة الهادئة وإذا بي أراجع المسائل التي اختلفت فيها مع الشيخ وأعدت تأملها فإذا الصواب جانبني وكان الحق معه، ولم يكن يمل من عبارة: أنا طالب علم أكبر منك «شوية». يا الله على هذا التواضع الجم!
لتتعلم منك الأجيال يا أستاذي.
ولم يكن الدكتور تمام حسان بالذي يحب المزاح فكانت حياته ورحلته التي قاربت مائة عام كلها جد وبحث علمي فلم أستطع في يوم ما أن أكلمه في غير العلم وكان يحب النقاش العلمي كثيراً جداً.
وهناك مواقف إنسانية أخرى ظهرت فيها براءته وإنسانيته وأذكر يوماً أنني رأيت دموعه عندما كنت بصدد إصدار كتاب عنه عندما بلغ التسعين وأسميته: تمام حسان بين المؤيدين والمعارضين، وأرسلت لجامعات وكليات كثيرة وكانت النتيجة أنه لم يصلني إلا عدد قليل من البحوث لم يكن منه بحث لتلاميذه من دار العلوم، وعندما ذكرت له هذا نزلت دموعه وقال لي: «يا محمد بنت البيت عوراء» رحمك الله يا أستاذي.
وله موقف إنساني آخر معي عندما كنا في حفل استلام جائزة الملك فيصل وكان معي تلميذه الوفي الأستاذ الدكتور عبدالرحمن العارف أخذت شيك الجائزة منه وقلت له: الشيك لي ولك الدرع فابتسم وقال لي خذه، وبعدها أصبت في الحفل بحالة إغماء وتعب شديد وكان من المقرر أن نذهب إلى أم القرى للاحتفاء به لكن منعني المرض، فكان يتصل بي يومياً ويقول لي: «عامل إيه دلوقتي».
لقد رحلت يا أستاذي عن عالمنا هذا بجسدك فقط، لكن روحك وتراثك العلمي سيظل باقياً معنا دائماً، ستظل نظريتك تشهد بنضجك العلمي وفكرك المستنير، لم تدع يوماً أنك عالم كما يدعي البعض، ولو ادعيت لحق لك...رحمك الله يا أستاذي وتقبلك عنده وجزاك بما علمتنا خيراً في مقعد صدق عند مليك مقتدر، و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
* جدة