تأخذ تمثيلات الحمار في القرآن الكريم صورة أقرب إلى الطبيعة منها إلى الثقافة. فالحمار بهيمة عجماء، تخشى خطر الافتراس والموت من السباع، وله صوت لا عذوبة ولا إطراب أو نعومة مهذبة فيه، تنكره أذن الإنسان، وهو كغيره من بهائم الأنعام التي امتن الله بها على الناس لاستخدامها في ركوبهم وزينتهم. وإلى ذلك فهو كائن حي وحيوي يموت مثلما يموت الإنسان وإذا كان الله قادراً على بعث الإنسان وإعادته إلى الحياة والقوة فإن هذه القدرة تشمل الأحياء جميعاً.
والمواضع الخمسة التي ورد فيها ذكر الحمار في القرآن الكريم لا تخرج دلالةً به وعليه عن تمثيلات ذلك؛ فالذين حُمِّلوا التوراة ثم لم يحملوها «كمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً» (الجمعة:5) إشارة إلى بهيمية الحمار وعجمائيته لأنه يحمل الكتب ولا يقدر على قراءتها والإفادة منها. والمعرضون عن تذكرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعظته إياهم «كأنَّهُم حُمْرٌ مُسْتَنْفِرَة فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَة» (المدثر: 50) وهو تمثيل بالحمار في حالة فزعه الطبيعي من الأسد وفراره من لحظة تهديد بالموت والعدوان على الحياة. أما صوت الحمار فهو في القرآن «أنْكَر الأصْوات» (لقمان: 19) أي أوحشها ومما تنكره النفوس وتنفر، كما هو تفسير الزمخشري وغيره. وفي آية (النحل: 8) «والخَيْلَ والبِغَالَ والْحَمِيْرَ لتَرْكَبُوهَا وزِيْنَة» دلالة على النعمة التي يؤديها الحمار، كما يؤديها غيره من الحيوانات، لبني البشر. أما في (البقرة: 259) «وانْظُر إلى حِمَارك» فإن الحمار هنا قرين الرجل الذي أماته الله مئة عام ثم بعثه، وجزءاً من دلالة الموت للأحياء ثم بعثهم التي تدلل الآية عليها.
وعلى الرغم أن من السائغ أن نقول إن اللغة العربية التي يخاطب القرآن الكريم بها تحمل ككل لغة تمثيلات ثقافية ناجزة، فإن التمثيلات التي نراها في القرآن ليست معبأة بالقيمة الثقافية التي تحمل على الحمار -كما رأينا أمثلة ذلك من قبل- الجشع والغباء والكسل والابتذال... إلخ. والأحاديث التي تروي عن المجتمع النبوي تقفنا على حضور الحمار العملي، دونما دلالة طبقية به وعليه أو تصنيفية اجتماعياً. ففي صحيح مسلم -مثلاً- حديث معاذ بن جبل: «كنت ردف الرسول -صلى الله عليه وسلم- على حمار يقال له عفير» وفي سنن النسائي حديث أنس بن مالك «أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على حمار وهو راكب إلى خيبر» وفي البخاري حديث عبدالله بن عباس « أقبلت راكبا على حمار أتان وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بمنى إلى غير جدار فمررت بين يدي بعض الصف». وفي تاريخ دمشق لابن عساكر وغيره، نقرأ في خبر قدوم عمر بن الخطاب لبيت المقدس: «ثم ركب عمر من الجابية يريد الأردن بعدما أمضى ما أراد، وقد توافى إليه الناس ووقف له المسلمون وأهل الذمة فخرج إليهم على حمار.. وأمامه العباس على فرس». معنى ذلك -إذن- أن الصورة الثقافية للحمار، في مرآتها السلبية، تخطِّئ من يحيلها على مصدر ديني، بل على العكس من ذلك يمكن القول إن جزءاً من الصورة الثقافية التي تتجه إلى الدلالة بالحمار على نقيض تمثيلاته الثقافية السلبية وبضدها، تصدر عن الدين أو تستوحي مثالياته. وفي الثقافة الغربية تصدر تلك الصورة الحكيمة والروحانية والدالة على الصبر والكفاح والمعاناة وضحية العدوان، التي يمثلها الحمار عن مصدر ديني. فهو كما تشرح الباحثة جيل بو Jill Bough (جامعة نيوكاسل، أستراليا)، يمثل شخصية شبيهة بالمسيح عليه السلام، وتتعزز هذه الرمزية بواحدة من أكثر الصور المسيحية ثباتاً في الثقافة الغربية، وهي دخول عيسى عليه السلام منتصراً إلى القدس على ظهر حمار. ويضاف إلى هذه الرمزية في الثقافة الغربية صورة حمار بلعام في العهد القديم، الذي رأى ملاك الرب معترضاً الطريق فانحرف عن الطريق وأخذ بلعام يضربه، وأخيراً ربض في الطريق، بدلالة على إدراكه ما لم يدركه بلعام من وحي الله.
هذه الصورة التي تدلل بالحمار على خطأ الإنسان، وظلمه وقسوته واستبداده وغشامته وجهله وفساد ضميره، لا تنفصل عن معاني الحكمة والشعور الحي التي تذهب مذهب المفاضلة بين الحمار والإنسان، وتتقنّع بالحمار أو تستعيره للنقد والسخرية نافذةً من منفذ الادعاء الإنساني للعقل والحكمة وامتلاك مشاعر الرحمة والتعاطف، ومدللة على أن العدالة والحقوق لا تأخذ معناها الحضاري مجزَّأَةً ومنتقَصَة. وهذا هو المعنى الذي تجسده الحضارة من حيث هي وعي كوني أكثر شمولاً وعمومية، وعيٌ يجاوز الذات إلى الوجود ذاته، فيخرم –لكي يكون وعياً بالوجود- أسباب الأنانية والاستبداد وينقض كل رغبة في التسلط والقهر والطغيان. إن المرء يعي الوجود ذاته حين يدرك اندراجه في المتعدد والمختلف، وأن آخرية غيره هي ذات في مقابل ذاته، ومن ثم فلا معنى لمشروعية حقه أو امتيازه على حساب حرمان غيره منه. وليست حقوق الحيوان، التي يغدو هضمها في الحمار تمثيلَها المكرور على المظلومية، منفصلة عن هذا الوعي، بل هي في الصميم منه، إلى الدرجة التي يصبح الرثاء للحمار كناية عن الرثاء للإنسان ورفع عقيرة الشكوى من انتهاكه والتمييز ضده.
وليست قصة «الحمار الذهبي» للروماني الإفريقي أبوليوس (125-170م) بعيدة عن هذا المؤدى. فالحمار فيها هو نقطة تلاق للإنساني والحيواني، إذ يستحيل بطل القصة لوكيوس إلى حمار، من خلال عمل سحري خاطئ، أقدم عليه طائعاً لأنه كان يريد أن يُمسَخ ليكون طائراً عجيباً، وبعد مسخه إلى حمار ومروره بمعاناة الحمار الأليمة والمهينة يعود إلى وضعه البشري. ومن الواضح أن الاستحالة إلى حمار لا إلى غيره اختيار مقصود من المؤلف لتأدية المعنى، وهو معنى أتقن المؤلف إنتاجه بطريقة مذهلة من خلال قدرة عجيبة على تقمص شخصية الحمار وتمثُّل عذاباته ومهاناته التي تتخطى حدود الاحتمال. وقد كان الحمار هنا نافذة مزدوجة بين عالم البشر وعالم الحيوان ففي مقابل العذاب والسحق الذي تطلعنا القصة عليه من الداخل، أي بحواس الحمار ووعيه، تجاه ما يلقاه من ضرب دام وإعنات ومشقة، نطالع بحواس الحمار عالم الإنسان المضطَهِد له وهو يطفح بالكذب والنفاق والفساد والمكائد والجريمة والعار والانحطاط الأخلاقي.
ونقبس للتأمل من تصوير هذا الحمار/الإنسان لمعاناته، مقتطفات من مثل قوله بترجمة عمار الجلاصي: « أُرسِلتُ لنقل حطب من الجبل، وكُلّف بي غلام هو شّر الغلمان بلا جدل. فكما لو لم يكن يكفيني الإرهاق من صعوبة الصّعود إلى قمّة ذلك الجبل واهتراء حوافري من الاصطدام بالنّتوءات الصّخريّة، كنتُ فوق ذلك أطرَّق بوابل من ضربات العصا المتتالية فتتغلغل أوجاعي من الكدمات فيّ حتّى النّخاع. وكان يوقع ضرباته دوما بفخذي اليمين، حتّى تقرّح جلدي من تتالي الضّرب على نفس المكان، وغار القرح فصار ثقبا، بل حفرة أو كوّة، وهو لا ينفكّ عن لطع الجرح النّازّ دما؛ وكان مع كلّ ذلك يُثقل ظهري بزنة من الحطب تخالها لضخامتها أُعدّت حمولةً لفيل لا لعيْر».
«كذلك ابتكر لي هذه الحيلة المهلكة: لفّ أشواكا لاذعة الوخز سامّة الرّؤوس، برم عليها على شكل دبّوس، وربطها بذنَبي منخاسا متدلّيا شديد المضرّة، لتتحرّك إذا مشيت مسبّبة لي غزغزة مؤلمة بحُماها»
«إذا اندفعت أعدو هربا من ضرباته الموجعة، أصابني من تسارع الأشواك أشدّ المضرّة، وإذا تباطأت قليلا لاجتناب تلك الأذيّة، أعادني الضّرب مكرها إلى الهرولة. هكذا لم يكن لذاك الغلام المتوقّد شّرا من شغُل، كما يبدو، سوى السّعي في هلاكي بكلّ السّبل، بل أكثر من مرّة آلى ليوردنّني الرّدى».
إننا، هنا، أمام إنطاق لآلام الحمار وعذاباته، التي تنطق القهر الإنساني ومآسيه بجامع الإحساس بالألم والقمع والانضواء تحت نير التسلط الفظ في كل. فالظلم واحد لا أنواع فيه، ولا تبرير لبعضه وتجريم لآخر. وإذا رجعنا إلى سيرة أبوليوس المبثوثة في غير مرجع فإن تكرار الذكر لحدبه على المستضعفين ودفاعه عنهم، وهو أحد أبناء الطبقة الأرستقراطية، وكان أبوه حاكماً للإقليم الذي ولد فيه في الجزائر، يعني أننا بصدد قراءة تؤشر على الدلالة التي قرأنا حماره الذهبي بها أكثر من تأشيرها على أي معنى سواها. أما الموقف المختلف تماماً في تمثيل الحمار ثقافياً في العصر الحديث فيبدو أن ريادته كانت في الرومانسية، ذلك المذهب الأدبي الأكثر حساسية تجاه الألم والقسوة ومشتقات الظلم ونواتجه، وهو ما أفضى بالرومانسية إلى عواطف مغرقة تستوعب الحياة بأحيائها جميعاً، وتمهد بالتالي لأسئلة نقدية تجاه المدينة والآلة وغول المجتمع في شموله وتجريديته، بحثاً عن وجود بلا توحش. ففي قصيدة لكولردج، بعنوان «إلى حمار يونق» يفاجئنا التعاطف بين الشاعر والحمار إلى حد اقتراب المسافة بينهما أو تلاشيها. إنه يواجه في القصيدة مُهر حمار على العشب في كلية جيسوس، ويبدو شعور الشاعر بالقرابة معه فيدعوه «أخي»، ويخاطبه: «مهر السباق الظالم، الصغير البائس» طالباً منه أن يستخدم خاصيته النبوية في توقع المخاوف، وماضياً في تصوير بؤسه وألمه وإلى جانبه أمه المربوطة. والأمر نفسه يقابلنا في قصيدة قصصية لوردزورث بعنوان «بيتر بل» تتضمن قصة داخل القصة الطويلة تفيد من حادث نُشر في جريدة عن حمار وُجد بجانب القناة وقد وقف حارساً على جسد صاحبه الذي سقط ميتاً. وترينا القصيدة تأكيد الشاعر إخلاص الحمار وقراره البقاء مع صاحبه على الرغم من تعرضه للضرب وسوء المعاملة من قبل بيتر بِل الذي يسرقه متابعاً رحلته على ظهره. وحين يقف به بِل يرفع رأسه ناظراً إلى الحمار، وقد وقف تحت شعاع القمر، فيخاطبه: «متى سأصبح طيباً مثلك؟!».
وأتصور أن هذا السؤال الذي تنطقه شخصية بيتر بل في قصيدة وردزورث، موجَّهاً إلى الحمار في معنى التمني لطيبة الحمار، هو مدار الكثرة الكاثرة من المؤلفات الأدبية والفكرية التي تداولت الحمار وتعنونت به. وهي مؤلفات شعرية وسردية وفكرية تتبنى موقف التعاطف مع الحمار والمديح له، وفي بطانة ذلك موقف نقدي وتعبيري تجاه الأوضاع الإنسانية الاجتماعية والسياسية التي لم يفد تقدم الوعي الإنساني والحضاري في تجاوزها. ولهذا نجد تمثيلات ثقافية معاصرة بالحمار في الدول المتقدمة مثلما نجد في الدول النامية والمتخلفة، فقصة الشاعر والكاتب الأسباني جوان جيمينز «بلاتيرو وأنا» تمثل التآخي والصداقة والمصاحبة بين الشاعر والحمار، وتتضمن حجاجاً ومحاورات فلسفية مطولة حول تفوق الإنسان ودونية الحمار، وذلك في دلالة على ما ينطوي عليه عالم الإنسان من وحشية ومظالم. وليس حمار جيمينز هذا الذي أسماه بلاتيرو، بعيداً عن الحمار في رواية الإنجليزي جورج أورويل «مزرعة الحيوان» التي ضمَّنها هجاءً سياسياً للشيوعية والتسلط ومشتقاتها في الاستبداد والتجبر. فالحمار فيها عجوز يتسم بالحكمة واعتدال العواطف، وهو في قراءة بعض النقاد للرواية مجاز المثقفين في الدولة المتسلطة الذين يمتلكون الوعي والمعرفة ولكن لا يتاح لهم التعبير، ورأى آخرون أنه مجاز أورويل نفسه. أما في الشرق العربي والإسلامي الحديث فقد غدا الحمار في مؤلفات عديدة قناعاً للحديث عن الإنسان البسيط المسحوق سياسياً وطبقياً، أو للحديث إليه في توحشه وتخلف وعيه وعنجهيته وتبلد حسه ومجافاته للحكمة. ورائعة القاص التركي عزيز نيسين «الحمار الميت» مأساة في دلالة ملهاة ساخرة، يرسل فيها الحمار من المقبرة إلى ذبابة الحمار فيقص عليها راحته في المقبرة من بيروقراطية الدولة وفضول الناس وأنانيتهم، وحين سقط ميتاً والتف الناس حوله، وحين سارت به عربة الإسعاف وما سمعه ممن حوله...إلخ ودلالة ذلك تميز الحمار بأخلاقيات عالية وبصيرة نافذة نقدياً لكل المظاهر والأخلاقيات المستشرية في الشرق. ولدى حمزة شحاتة وتوفيق الحكيم يبرز الحمار حكيماً جميلاً وشديد الحساسية، وبائساً ومسحوقاً في أيدي الخدم والفلاحين الذين يضاعفون عليه ما يلقونه هم من هوان ومرارة. وقد أخذ قناع الحمار دلالة تؤشر نقدياً على العربي عند محمود السعدني وأحمد رجب وأحمد مطر وغيرهم، وذلك بمعنى الرثاء والتمثيل للأوضاع أكثر منه بمعنى الهجاء ولشتم والانتقاص.
* الرياض