تظلّ موسيقى الشِّعر خاصيّة مهمّة من خصائص الشِّعر، (العربيّ منه خاصّة)، وأدوات تعبيره؛ من حيث إن اللغة نفسها، جوهريًّا: موسيقى. ولا معنى للتخلّي عنها، إذن، في الشِّعر، بما هو لغة اللغة. صحيحٌ أن الموسيقى اللغويّة لا تَمنح الشِّعر هويّته لوحدها، لكنها من أبرز مكوِّناته. وحين تُسقط يكون النصّ بَين بَين، بين الشِّعر والنثر. إن بترها يجعل النصّ معاقًا شِعريًّا؛ لتجرّده من ذلك النِّسغ اللغويّ، الذي يُعَدّ عنصر اللغة الحيويّ الفطريّ، المتمثّل في الإيقاع، أو يجعله «شِعرًا أبتر»، بحسب وصف (جان كوهن)(1).
المفارقة هنا أن مصطلح (قصيدة النثر) حين وُلد على يدَي الولّادة- سواء كانت الولّادة الأصليّة الفرنسيّة، باسم «قصيدة في النثر Le poème en prose»، أو ولّادة مجلّة «شِعر»، في ترجمته العربيّة: «قصيدة النثر»- كان الاعتراف ما يزال حينها قائمًا، وفي كلتا الحالتين والثقافتين، أن المولودة «نثريّةٌ»، لا «شِعريّة»، فهي (قصيدة في النثر)، لا في الشِّعر، أو (قصيدة نثرٍ)، لا قصيدة شِعر. واستمرت شهادة الميلاد هكذا حينًا من الدهر لم يكن شِعرًا مذكورًا، حتى ظهر جيلٌ لم يَعُد يرضيه هذا، بل أصبح يزعم أن التجربة «شِعريّة» أصلًا وفصلًا، لا نثريّة، وأن الهويّة، التي كان يُعَبِّر عنها مصطلحُ «قصيدة النثر» - وهي هويّة «النثر»، لا هويّة «الشِّعر» - لم يَعُد معترَفًا بها، ولم تَعُد تُرضي طموحات كُتّاب قصيدة نثرنا الأبرار! ومِن ثَمَّ فَتَحَ مصطلحُ «قصيدة النثر» الباب على مصراعيه لادِّعاء آخر، هو: أن النثرَ «شِعرٌ». وصار كاتب قصيدة النثر يُعَرَّف على أنه شاعر، بل أمير الشعراء في مملكة الشِّعر الحديثة، ويكتب على أعماله بالخطّ الأحمر العريض: «شاعر».. «وحصوة ملح في عين اللي ما يصلّي ع النبي»! ولو قيل له: أنت «ناثر»، لا شاعر، لشاب رأسه، إنْ لم يكن قد شاب! يُقال له: أليس ما تكتبه «قصيدة نثر»، وبهذا فانتماؤك إلى «النثر»، باعترافك أنت وبمصطلحك؟! يقول: ما أكتبه «قصيدة»، وإن كانت قصيدة نثر، فهي شِعر! مع أنه لا يمكن أن يقول كاتب «قِصّة شِعرية»، أو «مسرحيّة شِعريّة»، أو «ملحمة شِعريّة»، على سبيل المثال: أنا ناثر؛ لأن ما أكتبه داخلٌ في فنّ السَّرْد، وإنْ كان سَرْدًا شِعريًّا، فهو نثر! ومعنى هذا «التخبيص»: أن النثر قد أصبح شِعرًا، والشِّعر قد أصبح نثرًا، لدى هؤلاء، ولا سبيل إلى نقاشهم؛ فلهم لغتهم وفهمهم ومفاهيمهم، التي لا تمثِّل قصيدةُ النثر إلّا تمظهرًا واحدًا لفوضويّاتها الذِّهنيّة والذوقيّة الشاملة. وهكذا جنَى المصطلح المدجَّن على مفاهيم النوع الأدبيّ، واستُغلّ من قِبَل من كانت مُنَى أعينهم أن يُسَمَّوا شعراء، وأن يُلَقّبوا بهذا اللقب الساحر، وذلك في نظرةٍ قاصرةٍ إلى آفاق الكتابة الأدبيّة الواسعة، وإمكانيّاتها الأكبر من سقف الشِّعر. يردف ذلك هوسٌ بتلك الهويّة التي لها مكانتها الاستثنائيّة في الثقافة العربيّة، لا ينافسه إلا هوس الحاكم العربيّ بمقعده. ليس هذا ما حدث فحسب، بل وصلْنا، والحمد لله، إلى القول أيرًا: إن «قصيدة النثر» هي تطويرنا لـ»قصيدة الشِّعر»!
خلاصة الأقوال: إن قصيدة النثر قد تكون شِعريّة، بمعنى مصطلح (الشِّعريّة) الواسع، لكنها ليست «شِعرًا»، بمعنى الجنس الأدبيّ الخاص. أمّا بحسب معايير ما يسمّى «شِعرًا» في العربيّة، فهي محض نثرٍ فنّيٍّ، أو جميل، أو شاعريّ، أو لا بأس أن نسمّيها قصيدة نثر، شريطة أن لا ننسى ما ينصّ عليه المصطلح، من أنها «نثر»، وأن كاتبها «ناثر»، لا شاعر. دون هذه المحدِّدات للمصطلحات والمفاهيم وللخصائص النوعيّة، فليعبث العابثون!
على أن تهتّك النصّ الشِّعريّ يمثّل إشكاليّة عالميّة، لا عربيّة فقط. بل إنما استوردنا نحن هذا الغُثاء، كغُثاءات أُخَر نستوردها، بوصفنا عالةً، أتباعًا، لا منتجين، ولا مبدعين. وقد تحدّثتْ عن مظاهر من هذا الشاعرة الأميركيّة (كاثرين كولس) في كلمتها إبّان مهرجان الشِّعر العالميّ الحادي والأربعين، في روتردام (هولندا)، يونيو 2010. وهي شاعرةٌ وأكاديميّةٌ في اللغة الإنجليزيّة، من جامعة ولاية يوتا الأميركيّة؛ أي أنها منشغلةٌ فنيًّا ومعرفيًّا بهذه القضيّة. حيث تطرّقت إلى مستوى من هذا الشِّعر الحديث المزعوم، يتمثّل في شِعر الفلارف (Flarf) في أميركا، أو ما تُمْكن ترجمته عربيًّا بشِعر «الهَرْف»، أو الهذيان، أو بالعربيّة العامّية: «الخراط الفاضي». وتُعرِّف موسوعة الوكيبيديا(2) هذه الحركة الشِّعريّة بأنه يمكن تمييزها بوصفها حركة رائدة في أواخر القرن العشرين وبواكير القرن الحادي والعشرين، وأن طريقة شِعرها أن يُنقّبَ «الخرّاطُ» من هؤلاء في محرّكات البحث بشبكة الإنترنت عشوائيًّا، ليستقطر من النتائج المتحصّلة «قصائد»، هزليّة غالبًا وأحيانًا مزعجة، أو مسرحيّات، أو نصوصًا أخرى. وقد نقل المترجم (حمد العيسى) كلمة (كولس) تلك، ذاكرًا أن «كلمة فلارف FLARF مقتبسة من دمج مختصر [= نحت] لكلمتين هما: FLUFF أي (غلطة) وBARF أي (قَيْء)؛ ليكون معناها المقصود تقريبًا: (قَيْء غَلَط)، أي: كلامٌ فارغ. ويقول غاري سوليفان الذي كتب أوّل قصيدة فلارف إنه كتبها كنُكتة وردّ فعلٍ ساخر على المسابقة الأزليّة لـ(أفضل قصيدة)، التي أعلن عنها بكثرة موقع (شِعر دوت كوم) Poetry.com الأمريكي، حتى شَعَر بالاستفزاز وقرّر أن يهدم تقاليد الشِّعر مستعينًا بقدراته الفذّة على البرمجة، ليُثْبت أنه الأفضل حتى لو لم يفز بتلك الجائزة. وقد صدرت بالفعل عشراتُ الدواوين لشِعر «الفلارف»، وكُتُبٌ عِدّة لأنطولوجيا شِعر الفلارف، وصار لها جمهورٌ ينتظرون صدور كُتُبها لمتابعة تطوّراتها الشِّعرية القبيحة!»(3) هذا، ولعل ترجمة FLARF الأصحّ: «الغُثاء المنفوش»، أو «غمامة الغُثاء»؛ لأن FLUFF تعني المادة النافجة الناعمة كالغمامة، وهذا هو الأنسب بالتركيب مع «القَيْء» - أو تلطيفًا: «الغُثاء» - لا «القَيْء الغَلَط»، كما ذهب المترجم الكريم. وفي المصطلح إثارةُ مفارقةٍ بين الجماليّة FLUFF والقُبحيّة BARF. والشاهد هنا: أننا قد استوردنا أمثال هذا القَيْء، وأفنا عليه من قَيْء تخلّفنا، وإعاقاتنا اللغويّة، وعَفَننا الثقافيّ والحضاريّ، فأنتجنا ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قَيْء بشر! لنصنع من خلال ذلك نتاجًا لا أظن أن أيّ ثقافة أخرى تُنافسنا فيه؛ لأنها لا تُعاني عاهاتنا الفطريّة والمكتسبة، لغويّة وغير لغويّة، وإنما قد تتكلّف بعضُ الثقافات الشذوذَ أحيانًا، عن عمدٍ، وللتعبير عن قضاياها الوجوديّة وتمزّقاتها الفكريّة واحتجاجاتها الثقافيّة، فنقتبسها نحن، وبراءة الأطفال في عينينا، على أنها- وبحسب طيبة طوايانا- إنما جاءت بهدف التحديث الإبداعيّ في عالم الشِّعر. وذلك ما حدث في استيراد قصيدة النثر، بسحنتها الغربيّة ومصطلحها العبثيّ، على الرغم من أن (سوزان برنار) شخصيًّا- و»بعظمة لسانها!»- تقول لنا بكل صراحة: إن قصيدة النثر ليست بتجديدٍ للشكل الشِّعريّ، بمقدار ما هي ثورة احتجاجٍ ونضالٍ فكريّة للإنسان الفرنسيّ القديم ضِدّ مصيره، في ظروف معيّنة هنالك، ووَفق شروطٍ تاريخيّةٍ خاصّة(4). وهو ما لا علاقة لنا به، ولا للشِّعر به. لكنّ نفايات القوم تستهوينا وتستوطننا- ككلّ أمّةٍ مغلوبةٍ على عقلها وذوقها وإرادتها- سواء أكانت تلك نفايات نوويّةً أم نصوصيّة! آية ذلك أنك إذا عُدت إلى نماذج من شِعر «الفلارف»، لن تعدم فيها ما يحمل من الطرافة والتعبير الرامز عن سياقاتٍ محدّدةٍ ما يُكسبه مشروعيّته النسبيّة على نحوٍ من الأنحاء الثقافيّة، لتلحظ أنه ليس بعدميّة كثيرٍ من العَتَه العربيّ، وانبهامه التعبيريّ، الذي هو أساسًا، وقبل كلّ شيءٍ، طفحٌ ذهنيٌّ، سِوى أنه بات اليوم ذا هويّة ملفّقة وتسمية زائفة!(5) وبذا يأتي فشل ما يدعى الحداثة الأدبيّة العربيّة، وذلك لسببين:
1- النزوع التقليديّ المتأصّل في العرب، إلّا أنه انصرف حديثًا إلى تقليد كلّ ما هو غربيّ. وإذا كان (أدونيس)، مثلًا، يكرِّر في أطروحاته: «إننا ثقافةٌ تنقرض»، فذلك هو السبب! أعني أن ما أسّسه هو ورفقاؤه، منذ مجلّة «شِعر»، من حداثةٍ تقليديّةٍ للآخَر، تخرّب الأصول والبيوت، عوض أن تستلهمها وتبني عليها، فاغرةً فاها ركضًا وراء هراء الآخرين، هو سبب من أسباب الانحدار المُريع الذي رافق هذا المشروع التدميريّ. ولهذا، فإن مَن يقارن بدايات القرن العشرين ببدايات القرن الحادي والعشرين- في مجال الأدب تحديدًا- يذهل للحضيض الذي انتهينا إليه، على مستوى اللغة والفكر والخطاب والأسلوب.
2- الخواء التأسيسيّ العربيّ، المفضي إلى العجز التامّ عن تجديدٍ يُذكر في بنية التجربة العربيّة الشِّعريّة، أو الإضافة البانية على ما وصل إلينا من تراث. ما يؤول بالتجربة الحديثة إلى ما يشبه (عَبَث الصِّبْيَة)، لا أكثر.
إن الأدب- كما هو معروف- من أهم وسائل تعريف ثقافات الشعوب بعضها إلى بعض. فماذا تُرانا سنعرِّف الآخرَ عليه من ثقافتنا وحضارتنا، ما دمنا نُعيد تدوير ما نستنسخه من أسوأ أدبه وعبثه وقيئه، مشوّهًا، لنردّ تافِهَ بضاعته إليه؟! بل ما دام هذا الأدب الغثاء ما عاد يعبِّر عنّا نحن لدى أنفسنا، ولا يعرِّف بعضنا إلى بعض، لاغترابه واستلابه وعجمته وانبهامه؟!
* * *
(1) انظر: (1986)، بنية اللغة الشِّعريّة، تر. محمّد الولي ومحمّد العمري (الدار البيضاء: دار توبقال)، 52.
(2) http://en.wikipedia.org/wiki/Flarf_poetry
(3) المجلّة «الثقافيّة»، جريدة «الجزيرة»، 28 أكتوبر 2010، ص21:
/culture/2010/28102010/tar 38.htm
(4) انظر: (1993)، قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا، تر. زهير مجيد مغامس، مر. علي جواد الطاهر (بغداد: دار المأمون)، 288.
(5) بالإمكان متابعة الاطّلاع حول هذا من خلال موقع «مؤسّسة الشِّعر» على الإنترنت، على الرابط:
http://www.poetryfoundation.org/journal/article
* الرياض