* أهدي هذه السلسلة من المقالات إلى أستاذي الدكتور رضوان السيد «الذي خرَّجنا في هذه الصناعة، وأدخلنا في عداد الجماعة».
يصف جورج مقدسي (ت. ????) القرن التاسع عشر بأنه الأكثر عداءً للدراسات الحنبلية، ذاكراً بضعة أسباب أدت إلى أن ينظر المستشرقون الكبار في ذلك العصر إلى الحنبلية بصورة سلبية. أول هذه الأسباب أنهم رأوا في الحنبلية مذهباً للتجسيم وأن أتباع هذا المذهب كانوا من المتشددين من أهل الحديث الذين يناصبون المتكلمين والصوفية العداء. السبب الثاني: أن المذهب الفقهي الحنبلي لم يكن يحجم أو أهمية المذاهب الفقهية الأخرى. أما السبب الثالث فيرجعه مقدسي إلى التأثير الكبير لغولدزيهر (ت. ????) وماكدونالد (ت. ????) الذي سار على خطاه. فقد كان لأفكار غولدزيهر حول الحنابلة -كما يرى مقدسي- الأثر الكبير في انصراف الدارسين عن البحث في المذهب الحنبلي.
ومع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ظهر عملان مهمان مرتبطان بالحنبلية المبكرة. ففي 1897 نشرت مطبعة ليدن أطروحة دكتوراه كتبها المستشرق الأمريكي والتر باتون (ت. 1925) تحت عنوان (أحمد ابن حنبل والمحنة: سيرة الإمام ويشتمل على رواية لمحاكم التفتيش الإسلامية المعروفة بالمحنة 218- 234 هـ)، استعمل باتون عبارة Inquisition وهو مصطلح لمحاكم التفتيش التي كانت معروفة في التاريخ الأوروبي، حيث وظّف هذا اللفظ للدلالة على المحنة، وفي الدراسات الاستشراقية المعاصرة يتم استعمال هذه الكلمة بشكل مرادف للمحنة. يعدُّ كتاب باتون أول عمل مفرد عن أحمد ابن حنبل في الدراسات الغربية المعاصرة، وقد حافظ الكتاب ولفترة طويلة على أهميته بوصفه أهم كتاب مفرد عن أحمد ودوره في المحنة. وقد بذل باتون في كتابه هذا جهداً كبيراً، حيث أعاد كتابة سيرة أحمد وتاريخ المحنة اعتماداً على مخطوطات لكتب لم تكن مطبوعة في ذلك الوقت، مثل حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني، وطبقات الشافعية الكبرى لتاج الدين السبكي. وفي هذا الكتاب يقدم باتون أحمد ابن حنبل بصورة إيجابية، فهو «ولي عظيم ومدافع عن العقيدة السنية» (ص 4- يستعمل باتون عبارة أرثودكسي للإشارة إلى الاعتقاد السني). وأحمد أيضاً «الرقم الأبرز في الإسلام السني» (ص 2). كما أن باتون انتبه مبكراً إلى الدور الكبير الذي لعبته شخصية أحمد وتقواه في التأثير على تلاميذه وعلى المسلمين في العالم الإسلامي بعد وفاته (ص 194). وقد ترجم عبد العزيز عبد الحق الكتاب إلى اللغة العربية سنة 1958، وهي ترجمة جيدة لولا أن المترجم أفسدها بكثرة تعليقاته غير المفيدة. ثم أتى المستشرق الكبير إغناتس غولدزيهر فكتب بعض الدراسات القصيرة المتعلقة بالحنبلية المبكرة منها ترجمة أحمد ابن حنبل في النشرة الأولى من موسوعة الإسلام (1913)، بالإضافة إلى دراسة مهمة عن مسند الإمام أحمد (1896). كما كتب غولدزيهر دراستين مهمتين عن الحنابلة. الأولى هي عرضه لكتاب باتون عن أحمد والمحنة في مجلة جمعية المستشرقين الألمان (1898). وفي عام 1908 نشر بحثاً بعنوان «الحركات الحنبلية». والطريف أن غولدزيهر أظهر احتراماً كبيراً لشخصية الإمام أحمد إلا أنه في المقابل أبان عن عدم تعاطف مع الحنابلة، وذلك يرجع إلى كونه من المعجبين الكبار بالتيارات العقلانية في الإسلام. ومع ذلك فقد انتبه غولدزيهر إلى ثلاث نقاط مهمة تتعلق بالحنبية المبكرة. النقطة الأولى: هلى الارتباط بين الحنابلة وبين العامة. والثانية: هي أن الحنابلة ليسوا تياراً واحداً بل هم تيارات مختلفة، ولهذا استعمل غولدزيهر عبارة (الحركات الحنبلية). أما الملاحظة الثالثة: فترجع إلى التغير في الطبيعة الاجتماعية السياسية للحنبلية في علاقتها مع الدولة ومع المذاهب الإسلامية الأخرى. حيث لاحظ غولدزيهر أنه في القرون الرابع والخامس والسادس تحولت الحنبلية إلى حركة تميل إلى استخدام العنف بعد أن كانت حركة مهادنة. وهو يشير هنا إلى الفتن التي جرت في بغداد في ذلك الوقت بين الحنابلة وخصومهم. لقد كان تأثير غولدزيهر عظيماً بين المستشرقين في وقته، لذا كان لموقفه السلبي من الحنابلة أثر كبير في ابتعاد الدارسين عن البحث في هذا المذهب ورجالاته. ولكن في الأربعينيات من القرن العشرين تغير هذا الموقف السلبي لتصبح النظرة إلى الحنابلة أكثر إيجيابية. وهذا ما سيتم الحديث عنه في المقالة القادمة.
* بريطانيا