(يتخلّق النصّ الشعريّ من الصدمات حينما تفاجئ الدورة الفكرية للمبدع، فتضيق به الرؤيا التي تتوارى عن وعيه، تضيق به وتتسع بنفسها كأنها الرؤية المتجردة، ولا تستقرّ معه على حال إلاّ إذا وجد مفتاحاً لنصٍّ جديد..)
تلك فقرة اجتزأتها من مقالة سابقة طرحتُ فيها تساؤلات بعنوان (هل مات الشعر؟ أم مات من يبحث عنه..؟) نُشرت في الملحق الثقافي لهذه الصحيفة (الجزيرة) بتاريخ 1 يونيو 1997م وما أعادني إليها الآن هو تساؤل وصلني من قارئ متابع يستفسر بمحبة واستغراب عن (الفتور) الذي طرأ على تجربتي (الشعرية خصوصاً) فهو منذ عام كامل تقريباً لم يقرأ لي شعراً سوى قصيدة جديدة واحدة لا أكثر..
نعم صحيح، فالصدمات التي كانت تملأ جيوبي بالمفاتيح التي أبدأ بها عدداً من القصائد دفعة واحدة وأنهيها متواليات أحسبها الآن مقاطع مكملة لقصيدة واحدة كانت تأتي على شكل فقرات وعناوين مختلفة لا تكمّل بعضها في انسجام إلا حين اكتمالها كنصوص مستقلة نابعة من مرحلة واحدة تكالبت عليها الصدمات..
فهل خفتت الصدمات في مرحلتنا الراهنة؟
بالطبع لا، إنما ازدادت وتضخّمت حتى وصلت بنا إلى حدود الاعتراف بأن الواقع أكثر إدهاشاً من كلّ إبداع، وأنّ الهدوءَ مثيرٌ ومحرّضٌ يتجاوز كلّ الصرخات والانفعالات..
ولأن الشعر عملٌ فكريٌّ صعبٌ لا يجيده كلُّ من يمتلك اللغة وأدوات الكتابة والإنشاد، فقد تحوّل عند الكثرة ممن (يقرضون) الشعر إلى (صراخ) مفضوح حين نقرأ مفرداته ومعانيه قراءة متفحصة ومخادع حين نستمع إليه يتمثل في حركات بهلوانية تحض على التصفيق!
وهنا مكمن التغيّر الكبير الذي طرأ على المشهد الشعري بعامة في السنوات الأخيرة، فحتى الشعراء الذين كانوا ملتزمين بكل آيات الإبداع الحقيقيّ كتابة وقراءة وقولاً واستماعاً، يبدون الآن وكأنهم في حالة يأس واستسلام وربما انقلاب على قناعاتهم، فباتوا يشتغلون على الحركة الجسدية ونبرات الصوت بمنأى عن التمايز بين الدهشة والانفعال..
كم من قصيدة تموت حين نشرها على الورق وتبعث حية حين يلقيها شاعرها على المنبر، وكم من قصيدة يحدث معها العكس - وهو الأصح بنظري..! تلك هي (نقطة الصفر) التي أرى -كرؤية شخصية- أننا قد عدنا إليها، وكأننا لم نتطوّر خطوة ولم نتجاوز عصر الخيل والليل والبيداء.. وعلى هذا النحو من العودة إلى (الأصول) قد لا يجد من يرى في القصيدة زمانه الأصليَّ القادمَ أيّ مكان ماضٍ به ليحتويه؛ فيعمد إلى كسر كل مفتاح تهبه له صدماتُ هذا الزمن ويبقي على قصيدته الجديدة منشورة كما هي ساكنة منذ زمانها في أوراقها دون أن يحاول إعادة صياغتها بنبرات الصوت وحركات اليدين..
لا أحد يكتب قصيدته الجديدة مرتين..
يقول محمود درويش في مفتتح قصيدته (خطبة الهنديّ الأحمر ما قبل الأخيرة أمام الرجل الأبيض) مستشهداً بمقولة مأخوذة من خطبة سياتل - زعيم هنود دواميش - حين أُجبر على تسليم بلاده: (هل قلتُ موتى؟ لا موت هناك، هناك فقط تبديلُ عوالم).
فهل يجوز لنا أن نقول الآن: لا قصائد جديدة لشاعر تقدّمت عليه قصائده. كلّ قصائد الشعراء المتقدّمة عليهم هي قصائدهم الجديدة.. فلا تجبروا الدهشة فيهم على الانفعال الناجم عن خداع...؟!
أو هو القول في تساؤلات مشروعة ومشرعة:
كيف ستقطفُ نجماً بعيداً،
وأنتَ المغطّى بهذا الغمامْ..؟!
وكيفَ ستوقظُ عمراً جديداً،
وأنتَ الذي لم تقم من منامْ..؟!
وكيف تعودُ مع العائدينَ؟
ألم تمضِ وَحْدَكَ، دونَ التزام...؟؟
ffnff69@hotmail.com
* الرياض