ينظر بعض المراقبين السياسيين على أنّ غياب القيادات والخطابات عن انتفاضات الشعوب العربية في الجمهوريات المعسكرة هي سمةٌ إيجابيّة، وأنّها دلالة على الشعبية والشبابية؛ وفي زعمي أنّها حالة ضبابية، تحمل أيضاً في طيّاتها احتمالات وجود قيادات - حركات (يمينية) تعمل تحت السطح، لا يحظى مشروعها بمشروعية في الوقت الراهن، ولا يتناسب مع الوضع الدولي الذي يرُتجى منه (سرّاً أو علناً) دعم هذه التحرّكات في إلغاء شرعية الأنظمة الديكتاتورية. إذّاكَ، ليس يسيراً استبعادها في قراءتنا لهذا (الخريف - الربيع) فأدوارها فاعلة وملحوظة في ليبيا ومصر، وهي تتفاوض الآن على اقتسام الغنيمة السياسيّة بما يتناسب مع تحرّكاتها وقوّتها الميدانية، أمّا أدوارها في سوريا واليمن فما زال بين الفصح والكتمان، باستثناءات الشعارات الجمعاوية التي غالباً ما تنهلُ من مَعين (الخطاب الديني) مع غياب الرؤى؛ وعلى افتراض صوابية فكرة غياب القيادات والرؤى والخطاب السياسي الإصلاحي عن تلك الانتفاضات كما هو حالها علناً، فإن هذا الغياب يؤهّل حضوراً خصباً للتيار الأقوى، وما أظنّ عاقلاً ينكر أنّ الخطاب والتنظيم الديني في المنطقة العربية يتجاوز بمراحل أيّ خطاب وتنظيم مدنيّ آخر.
ولئن باتَ سقوط طاغية واقعة حتميّة، فإنّه ليس من الحتميّة في شيء أنّ العدل والحرية والمساواة خليفته، وليس فيما نسوقه إحباطا لتضحيات الشباب العربي اليوم في سبيل إسقاط أنظمتهم الجمهورية الديكتاتورية -التي فرّطت في حقوق إنسانها، لدرجة، جعلتها تتساوى بالإجرام مع المحتل الإسرائيلي، بل تتجاوزه (في تعاطيها مع المظاهرات السلمية) هدراً للحقوق وسفكاً للأرواح- إنّما قراءة لمرحلة ما بعد الديكتاتوريات.
وللمضي قدماً في هذه القراءة، فإنّه يتوجب عليّ إيضاح مفهوميين ضروريين، أوّلهما: أن الغالبية ليست أساسا للعدل والحرية، فلا يشترط في تحرّكاتها أنها تقف واعيةً إلى ما يُفترض أن يقدّم سعادتها وخيرها، فمفهوم الغالبية العاقلة (القادرة على المشاركة) مقرونٌ بتقدّم المجتمع ووعيه، وهو ما يستحيل وجوده في الدول المتأخّرة التي تزداد فيها الأمّية ويغيب عن مجتمعاتها مفاهيم العصرنة وتبعات الدولة المدنية، حيث ينمو فيها الجهل والتطرّف والفوضى.
ثانيهما: أنّ التغيير بمفهومه الثوري -أيّ تغيير العقد الاجتماعي- ليس مقروناً بالضرورة بالتقدّم نحو مفاهيم العلمنة والحرية والتعدّدية.
هكذا استحضر بعض الأسئلة من التاريخ المعاصر تمهيداً: مَن أسقط الشاه في أواخر السبعينيات؟ لمِنْ صوّتَ الشارع الجزائري في انتخابات التسعينيات؟ من أوصل حماس للسلطة في بدايات القرن الواحد والعشرين؟
المختصّون بتاريخ الثورة الإيرانية يعلمون أنّها عمّت طهران بتيّارات عديدة، يسارية ومعتدلة ويمينية، وإن رجحت الغلبَة لمؤيّدي الإمام الخميني وأتباعه، لكنّهم-أيضاً- يقفون طويلاً قبل تصنيفها بأنّها محض ثورة دينية، وإن أعقب الإطاحة بالشاه ونظامه حركة إقصائية (تصفية الآخر) أدّت لتغيير في نظام الحكم وفق مرجعيّة إسلامية، اصطلح على تسميتها: «ولاية الفقيه».
وفي الجزائر، منحت الغالبية أصواتها للجبهة الإسلامية للإنقاذ سنة 1990، في انتخابات البلديات والولايات ثم الانتخابات التشريعية، فلم تُرض الغرب والجيش؟ فاعتُقل زعيم الجبهة عبّاس مدني، وألغيت النتائج لتلج الجزائر دوّامة عنفٍ لسنواتٍ عاقبة، أودت بآلاف الضحايا الأبرياء، ولم تنتهِ آثارها بعدُ.
وفي الأرض المحتلّة انتخبت الغالبية حركة حماس! إنها الغالبية: الكلمة العظمى في المدنية الغربية المعاصرة، والتي لا تناسبها إن أفرزت أي انتخابات في المنطقة فوز يمين متطرّف أو معتدل.
أنحتاج طوافاً في معظم الدول العربيّة واستفتاءً واسعاً حتّى نقدّر أنّ المنطقة ترزح تحت تأثير دينيٍّ في شرائحها الشعبية الواسعة، بينما يكاد الإعلام العربي الحكومي والرأسمالي النفعي يسعى لنفي هذا التأثير، بل أنّ أصواتاً محسوبة على العلمنة آلت تنفي أنّ الغالبية تنتمي بثقافاتها إلى مفاهيم دينية إقصائية، وهي -أي غالبية الشعوب العربية وإن لم تكن متحزّبة- تميل إلى مباركة أيّ مَن يرفع شعاراتٍ دينيّة؛ وتلك المراهنات على وعي الشعوب في الحواضر العربية لا تستند إلى حجج راسخة، إذ بمقدور نتائج أصغر انتخابات نزيهة، أن تسقط آمال المفرطين بمراهناتهم، ويظهر جلياً، أين يقف الشارع!
هكذا تجربة صارخة في تناقض نتائجها تُلقي الأسئلة بوجه اليسار العربي بتيّاراته المتعدّدة على مدى فشلها في تسويق وإيصال أبسط أفكارها إلى شرائح المجتمع المختلفة، وعلى مقتلها في تحالفاتها مع الديكتاتوريات التي شوّهت أخلاقها وغاياتها؛ هكذا بعد قرابة مئة عام من عصر النهضة تجد النخب العربيّة غير قادرة على نشر وتعليم أبسط مفاهيم المدنية والتنوير، المتمثّلة بمفهوم المواطنة، ونبذ الإقصاء وفق مفاهيم العدالة والحرية والمساواة والقانون، تجدها عاجزة عن عصرنة تقاليد العامّة وتوسيع إطار ثقافاتهم لتستوعب المفاهيم المعاصرة، كمفاهيم لا تتعارض مع المعتقد، كما صُوّرت وشُوّهت.
«التغيير» الذي يطرأ على العالم العربيّ اليوم، هو -تبعاً لقراءتنا- تغيير على مستوى الروؤس وليس على مستوى النفوس، تغيير في الشخوص وليس تغييراً في النصوص؛ فالعناوين الكبيرة التي تساق إثر الانتفاضات العربية، كحريّة المعتقد وصيانته وتعدّده، كالمواطنة وحقوقها المتساوية، كالتعدّدية، كمحاربة الفساد.. هي على أقل تقدير تعجّل في الرؤى لا يستند إلى وقائع أو مشروعات.
فذاك الطوفان الهادر من المناضلين لحريتهم، يحرّضهم توقهم «لخلع الرئاسة» كمسألة أساس لا يعقبها برنامج أو اتفاق آخر، وهي تحركات شعبية خالصة إلا من شوائب قليلة، تحاول أن تصطاد فيها الاستخبارات الغربيّة والعربيّة أيضاً. وهي انتفاضات لا ترقى بعد لإلحاقها بمصاف الثورات، إن عجزت عن التغيير الجذريّ، على أساس أنّ مفهوم الثورة يبقى ناقصاً إن لم تحقّق أهم شروطها، المتمثّل بإحلال فكرٍ وعقدٍ اجتماعيّ محلّ آخر، وهذا رهان صعب؛ فبأي فكرٍ إحلاليّ تقدّمه اليوم انتفاضة مصر، وقد أتمّت مبتغاها بخلع رئيسها!.
الأسئلة كثيرة ومشروعة، ولها شواهدها: مَن خلع الرئيس المصري الجيش أم الشعب؟ هل ثمّة تحالف مصالح بين الإخوان والجيش؟ من يحكم مصر اليوم، غداً؟ فما أعقب سقوط (مبارك) من خطبة الشيخ القرضاوي في ميدان التحرير، تعيين طارق البشري رئيس لجنة تعديل الدستور، واعتبار مادته الثانية المتعلّقة بدين الدولة خطّا أحمر، الهستيريا الشعبية على تعيين محافظ قبطي، كل تلك الشواهد لا تطمئن الى مشروع ديمقراطي برلماني تنشأ فيه المواطنة على أساس الانتماء للوطن بعيداً عن الديانة، وعلى مبادئ المساواة.
إنّ التغيير الذي ما انفكّ الكتّاب والمحلّلون السياسيون يسترسلون به، لسنا نراه تغيّراً بمفهوم التطوّر والتحرّر إذا لم يقم خطاب الإصلاح الديني لممارسة دوره التاريخي كي لا تؤول تظاهرات الشباب العربي (من مستبدّ إلى مستبدّ) وهذا ما يفتقر له الإعلام العربي اليوم المرئي والمكتوب، فليس تغييراً إن لم يحمل في أجندته طفرةً، تَحُدّ من المعتقدات الإقصائية، وتكبح جنوح الانزوائية والاستعلائية -في آن معاً- بالتفريط في حقوق الإنسان (ذكراً وأنثى)، وليس تغييراً إذا لم تسنّ التشريعات المدنية.. هل هناك أيّ مؤشر! فعلى ماذا يراهن المتعجّلون؟.
الحكومات العربيّة (المُعَسْكَرة) تتهاوى، هذا خريفها أكثر من كونه ربيع العرب في بزوغ الحريّات المصونة، فالحكومات التي جاءت بالدبابات (عسكر مصر، استخبارات تونس، عسكر ليبيا، عسكر سوريا، عسكر اليمن) مستغلّة بساذجة وجهالة شعارات العلمانية سقطت في وحل التطرّف، الديني، الطائفي، الإثني؛ وبات المشهد اليوم كأنّ هذه الدول كانت تحت احتلالٍ عسكريٍّ يقارع في إجرامه وانتهاكه للحُرمات ما يقوم به الإحتلال الإسرائيلي في الأرض المقدّسة، وبات واضحاً في المنطقة العربية أن الإصلاح السياسي لا يعوّل عليه منفرداً، فمادة هذا الشرق متديّنة بصيغٍ إقصائية تعتمد تفسيراتٍ أحادية، بدءاً بنصوص التكفير، والدعاء على الخصوم والمختلفين، وليس انتهاءً باحتكارية الحقيقة لدى الطوائف المعتدلة بينهم.
والمخاطر اليوم أنّنا نشاهد تراجعاً في خطاب الإصلاح الديني والعمل سياسياً وتثقيفياً بموجبه، وهو المعوّل عليه، وهذا أوانه. فالإصلاح الديني الذي دعا له منذ بداية القرن العشرين -وتوالى تباعاً- ثلّة من الأزهريين والمثقفين والأكاديمين في أنحاء متفرّقة من العالم العربي، (علي عبدالرازق، طه حسين، حسين مروّة، أدونيس، الجابري، الصادق النيهوم، برهان غليون، فرج فودة، نصر حامد أبوزيد، شحرور، نيازي عزالدين، جمال البنا، السيد القمني.. وغيرهم) الذين قدّموا كتابات ومراجع معاصرة لِعَصْرَنة نصوص الدين، تمهيداً لتثقيف المجتمع، ولم تتبنّه أيّ حكومة عربيّة في مناهجها الدراسية، الخطاب الذي لم يكتمل مشروعه، المهدّد بالانزواء ثانية، حريّ به اليوم أن يلعب دوراً ضرورياً في مدّ خطابه إلى شرائح عديدة، تأسيساً لمستقبل نسعى أن يحرّر الإنسان من شرك التطرّف والتفرّد والـ(أنا).
لقد برزت في مرحلة ما بعد الاستقلال فرصة لخطاب ديني إصلاحيّ يحرّر المجتمعات العربية ممّا يكبّلها روحاً وفكراً، لكنّ الحكومات العسكرية وأدتْ ذاك الخطاب. واليوم، وبينما الشباب العربي يقدّم تضحيات كبيرة لأجل التغيير، فإن هناك فرصة عظيمة أن يقوم خطاب الإصلاح الديني بدوره المنذور له، إذا انتقل من الفكر إلى العمل، وإذا تمكّن من مفاوضة الساسة الجدد لمشاركتهم رؤاه وتصوّراته في إسهام ونشر المفاهيم المعاصرة والمدنية، فإن فشل مرّة أخرى، ولم يوظّف أيّما توظيف، وغاب عن ساحات التغيير والإعلام ومراكز صناعة الق رار، فما نراه (الآن - وغداً) لا يعدو كونه خريفاً للحكومات الاستبدادية القائمة حالياً، وليس ربيعاً للشعوب العربية؛ فلقد انتصرت إيران على ديكتاتورية وظلم الشاه في أواخر السبعينيات، ولكن، إلى أين!.
* جدة