ومن هذه العيِّنة النوعية لاستفتاءات المنهل، التي أردنا التفصيل فيها نسبياً، إلى القضايا التي شكَّلت موضوعات لاستفتاءات أخرى في المنهل، ونطالع منها مثلا:
(1) الكتب والصحف التي أنصح للناشئة بمطالعتها.
(2) هل يأفل نجم الأدب؟
(3) ما هو أثر الأدب الحديث في هذه البلاد؟
(4) هل الحروب تطوي الحضارات أم تنشرها؟
(5) كيف نرسم برنامجاً علمياً لاقتصادنا؟
(6) أدبنا هل يصلح للتصدير أم لا؟
(7) ما هي المواضيع التي راقتكم في المنهل؟
(8) الحياة الأدبية ما لها وما عليها؟
(9) تخطيط وسائل النهضة في بلادنا صعوداً، إرسال الصواريخ من الأرض إلى القمر.
(11) ملامح المستقبل العربي كما أتخيلها.
(12) إذا أصبحت مليونيراً.
(13) العالم الإسلامي والعربي عام 1388هـ - 1968م.
(14) بإمكاننا أن نقوِّم أدبنا.
(15) الأدب وإن لم يبلغ الذروة صعوداً، فهو في سلم الصعود والخلود.
أولاً: معطياتنا الثقافية ومعابرها.
فهذه الموضوعات المتنوعة، يمكن أن تكون مثالاً نستكشف من خلاله طبيعة القضايا التي كانت تشغل فكر المؤسس، وهي في مجموعها واشتمالها على الأدب، والسياسة، والاقتصاد، ومستجدات الواقع، واكتشافات العلم، تختلف من حيث قيمتها الموضوعية وفقاً للآراء حولها، وبحسب رؤية ووعي من اُستفتوا فيها، بما يمكن أن نشبهه بالتحقيقات الصحفية في أدبيات الصحافة الحديثة، التي تأخذ نفس الفكرة وذات الآلية، في المقدمات وسياق الطرح، وطريقة عرض النتائج.
غير أن ما يميز استفتاءات المنهل هو الجد والالتزام، في إيلاء هذا الجانب فضل اهتمام، ومزيد تركيز، والحرص على التنويع، فمن مجمل ما يزيد عن (45) استفتاء، شارك فيها (60) أديباً ومفكراً ومسؤولاً - هناك من شارك في أكثر من استفتاء -نلحظ تعدد اهتمامات ومرجعيات واتجاهات من شاركوا في الاستفتاءات, واختلاف بلادناهم، كما نلحظ استمرارية باب الاستفتاءات في المنهل مدة تزيد عن نصف قرن.
وهذه المؤشرات الإحصائية النسبية، يمكن لها أن ترسم لنا خارطة للسياق الموضوعي العام للاستفتاءات. من خلال مقاربتها في مستويين:
أولاً: الشكل:
ونعني به صياغة العنوان، الذي يُشكل بنية نصية أولى للموضوع, وقد شكلَّت صيغ السؤال فيه بـ (هل، لماذا, كيف، ما) نسبة كبيرة إزاء الصيغ الأخرى، التي جاءت أيضاً وفق صيغ أسئلة ضمنية، مثل: (الكتب والصحف التي أنصح للناشئة بمطالعتها)؟, بينما تضع بعض الاستفتاءات المتلقي بين خيارين متناقضين سلباً أو إيجاباً، وتحاول أن تشي مسبقاً بالإجابة وفقاً لأحدهما، مثل:(أدبنا هل يصلح للتصدير أم لا)؟ ومن ثم تدور الأسئلة التفصيلية التالية للعنوان في ظلال ذينك الخيارين.
كما جاءت صياغة بعض الاستفتاءات في جمل نمطية واسعة الدلالة، مثل: (الحياة الأدبية مالها وما عليها)، والبعض الآخر طريفاً ومباشراً، مثل: (إذا أصبحت مليونيراً).
والأمر في صياغة هذه العناوين، يعود إلى تقدير المؤسس، وانتقائه للمُلحِّ من القضايا في عصره، وما يتناغم مع النبض الاجتماعي والثقافي حينها، وسعيه لاستثارة فضول القارئ، واستجلاب متابعته، من منظور مهني صرف، وفقاً لعنونته الاستفتاء الأول الموجه للسيد طاهر الدباغ بـ (استفتاء خطير) (20) وقد وضع العبارة على يسار الصفحة، يمين القارئ بشكل بارز.
ثانياً: المضمون:
إجمالاً يمكن أن تعطينا عناوين الاستفتاءات والفضاء المتنوع لها، تصوراً أولياً لما حفلت به من مضامين - حتى وإن فصلنا بينها إجرائيا في هذه المقالة - ولو تأملنا وتدبرنا ما ذهب إليه المشاركون في الاستفتاءات من آراء، لوجدنا تفاوتاً في قيمة تلك المضامين، من حيث الجدية والقيمة الموضوعية للآراء، والأفكار التي تحملها والمعطيات التي تنطلق منها والاتجاهات التي تذهب إليها، ومن ذلك كله يمكن أن نقيس ونقيِّم مستوى تلك المضامين. وهو أمر قد يتوفر مبدئياً من تأمل أسماء أولئك المشاركين وإدراك السياقات الثقافية لكل منهم.
ولكننا سنُنحي ذلك جانباً - لأنه ليس بوسع هذه المقالة أو مكان نشرها تتبعه - ومن ثم فسوف نتلمس هذه المضامين ونقاربها من خلال قياسها كمِّياً، فقضايا مثل: (ملامح المستقبل العربي كما أتخيلها) أو (العالم الإسلامي والعربي في عام 1388هـ - 1968م) و(معطياتنا الثقافية ومعابرها)، كانت من أطول استفتاءات المنهل، ومن أكثرها استيعاباً للمشاركين من الكتَّاب والأدباء والمفكرين.
والطول والكثرة هنا، كمقياسين كمييِّن، يقتضيان مضموناً نوعياً؛ إذ تعددت وتنوَّعت مستويات وزوايا رؤى المشاركين فيها، ومنظورات تعاطيهم لها. فتناولها بعضهم من أكثر من جانب، وبسَّطها بعضهم ومسَّها مساً مباشراً، وقادها البعض إلى زوايا أيديولوجية، لم يقتضها السياق، وحلَّلها آخرون تحليلاً نقدياً يعكس طبيعة الوعي، ومستوى التصور، ويدلُّ على دقة الملاحظة.
وهي وإن كان بعضها مرتهناً لوقتية الموضوع، وظرفية الزماني والمكاني مثل: (العالم الإسلامي والعربي...)إلخ. فإن البعض الآخر مثل:(معطياتنا الثقافية ومعابرها) يتوافر على قيمة ثقافية كبيرة، مرتبطة أساساً بمرحلة مهمة من مراحل الحركة الثقافية والأدبية في بلادنا، ويعكس رؤى وتصورات أدباء ذلك الجيل إزاءها. ويمكن أن يكون مقياساً لفهم طبيعة منطلقاتهم ومواقفهم تجاه القضايا الأدبية والثقافية آنذاك، والظروف والمحايثات التي يحددون من خلالها آرائهم.
- كما كانت المنهل ذاتها موضوعاً للاستفتاء، عندما حاول المؤسس استبانة آراء قراءها في أطروحاتها, من خلال استفتاء بعنوان: (ما هي المواضيع التي راقتكم في المنهل)؟ وكأن المؤسس في ذلك الاستفتاء يجس نبض القراء، ويستعلم اتجاهات المتلقين والمتابعين للمنهل, جاعلاً من آرائهم مقياساً يرشده إلى اتجاههم القرائي، والموضوعات التي تهمهم.
كما كانت (الاستفتاءات) ذاتها موضوعاً للاستفتاء، من خلال قراءة تحليلية كتبها سعيد السريحي قبل ربع قرن، بعنوان: (استفتاء المنهل، قراءة تحليلية) (21) وكانت العيِّنة التي حللَّها السريحي استفتاء (معطياتنا الثقافية ومعابرها) (22)، وشارك فيه أدباء مثل: أحمد البقالي، والمليباري، ومحسن باروم، وعبدالعزيز الرفاعي، وأحمد جمال، وحسين عرب، وغازي القصيبي، وعبدالله بن إدريس، وشكري كمال، وشكري فيصل، وأحمد عايل فقيهي، وآخرون.
وقد كان للسريحي رأي في هذه الاستفتاءات إجمالاً، يعبِّر عنه بقوله: (إن مثل هذه الاستفتاءات، تلقي مزيداً من الضوء، على بعض الزوايا في أدبنا المعاصر، ومن شأنها كذلك؛ أن تكشف عن بعض وجهات النظر الكامنة لدى بعض الأدباء والمفكرين، التي تشكِّل دافعاً خفيَّاً يقف خلف توجهاتهم المحددة نحو الثقافة عموماً، والأدب على نحو خاص... كما أنها محاولة للنقد الذاتي، أو التقويم من الداخل، بحيث نستطيع أن نعيد حساباتنا مع أنفسنا ومع محيطنا، في ضوء النتائج التي تُسفرعنها مثل هذه الاستفتاءات، ذلك أنها تكشف لنا عن مواطن القوة ومغامز الضعف، على نحو يستدعي منا المسارعة إلى وضع الحلول اللازمة الضرورية، لتلافي مثل هذا الضعف ودعم مثل تلك القوة) (23).
وأعتقد أن السريحي قد اهتدى إلى جوهر القيمة الرئيسة لهذه الاستفتاءات، وقد يكون الوحيد الذي قرأها قراءة تحليليِّة. حيث يمضي في تحليل وفرز الآراء الواردة في الاستفتاء مناط التحليل، وتفنيد بعضها، وتقويم البعض الآخر، كما تقصَّى دوافع بعض من شاركوا في الاستفتاء, وهي دوافع من شأنها توجيه الرأي نحو ذلك المنحى أو ذاك.
ومن مخرجات قراءته التحليليِّة؛ ما وصفه (بالمسألة الجديرة بالملاحظة والأخذ بعين الاعتبار) (24) -وقد كانت كذلك- وهي (أن الصياغة الأدبية للأسئلة، أفضت إلى شيء من الغموض واللَّبس، وهو ما أدى بدوره إلى شيء غير قليل من الاضطراب، والتفاوت في الإجابات، مما يعود إلى الاختلاف في فهم المراد من الأسئلة، وكذلك الالتباس في الوصول إلى الغاية من وراء طرحها) (25).
وقد ألمحنا إلى شيء من ذلك، في سياق مقاربتنا لصياغة هذه الأسئلة، ولكن السر يحيى تنَّبه إلى ذلك وطرحه مبكراً، على نحوٍ لا يعوزه البرهان والمثال من إجابات المشاركين، كما ختم السر يحيى قراءته التحليليِّة الدقيقة بالتأكيد على أهمية هذه الاستفتاءات، وفائدتها الجليلة (26).
والذي نؤكد عليه هنا، هو أن الخط الذي رسمه المؤسس لهذا الاستفتاءات، وانتهجته المنهل في طرح القضايا وانتقائها، واستشعار آراء الأدباء والمفكرين والمسؤولين حولها، وتقديمها لقراء المنهل، تُعدَّ سياقاً مهنياً جادَّاً كان له الأثر الواضح في استكشاف الآراء والأفكار، وتلمس الاتجاهات، ومعرفة معطياتها، وكشف مستويات وعي المشاركين فيها.
كما أن حياد المجلة ومهنيتها في جعل هذه الاستفتاءات والمنهل قبلها، موضوعاً للاستفتاء والتحليل، يؤكد منهجها الرصين، وثقتها المسؤولة في قيمة أطروحاتها، وقابليتها للنقاش والحوار، والمساءلة والتقييم، وهو ما يُحسب للمؤسس - الأنصاري، الذي وضع اللبنات الأولى لهذا النهج ورعاه، ودأب على السير فيه بهمَّة وعزيمة تبقى في سجل إنجازاته الثقافية الرائدة.
* * *
الهوامش والإحالات
(1) د. عبدالله سالم القحطاني، الكشاف الجامع لمجلة المنهل السعودية، 1355-1401هـ 1937-1981م، مطبوعات مكتبة الملك فهد الوطنية الرياض، ط1، 1415هـ.
(2) عبدالقدوس الأنصاري، أدبنا الحديث..كيف نشأ.. وكيف تطور، إعداد ومراجعة: أ.د عبدالرحمن الطيب الأنصاري، مطبوعات نادي المدينة المنورة الأدبي، ط 1، 1428هـ - 2007م ص 28.
(3) المرجع السابق.
(4) المنهل في 25 عام، الكتاب الفضي، نشرته إدارة مجلة المنهل، وكتب أغلب فصوله: عبدالقدوس الانصاري، ص 109.
(5) المرجع السابق, ص 109.
(6) نفسه.
(7) المنهل، عدد بيع الثاني، 1356هـ مايو 1937م، ص9.
(8) انظر: السابق, ص9.
(9) المنهل عدد جمادي الأولى، 1356هـ - يونيو 1937م ص 11.
(10) 19جمادى الأولى, 1351هـ.
(11) عمل الأنصاري في ديوان إمارة منطقة المدينة المنورة من العام 1346هـ - حتى العام 1356هـ.
(12) المنهل، الكتاب الفضي، مرجع سابق، ص 109.
(13) المنهل, عدد شوال وذي القعدة، 1356هـ، ديسمبر 1937م، يناير 1938م ص 30.
(14) هكذا جاء في العدد المشار إليه، في استعراض الأنصاري لمحتويات ا, ص34 في الكتاب الفضي، حيث صرح الأنصاري باسم: أحمد رضا حوحو, (انظر: المنهل، الكتاب الفضي)، ص 109.
(15) المنهل، عدد شوال وذي القعدة 1356هـ - ديسمبر 1937م يناير 1938م,ص34.
(16) المرجع السابق, ص35.
(17) المرجع السابق, ص 36.
(18) المرجع السابق, ص 36.
(19) المنهل،0) االمنهل، دد ربيع الثاني، 1356هـ - مايو، 1937م، ص 9.
(21) المنهل، مج 46، العدد 438، ذو الحجة عام 1405هـ، أغسطس وسبتمبر, 1985م, ص 129.
(22) المرجع السابق, ص 109 - 128.
(23) المرجع السابق, ص 130.
(24) المرجع السابق, ص 130.
(25) نفسه.
(26) انظر: السابق, ص 138.
* المدينة المنورة