ما زالت اللوحة التشكيلية غريبة في مجتمعنا، وما زال حضورها أو التفاعل بها في حدود الفصول الدراسية بالمدارس أو ممراتها، أو ورش الفنون في أقسام التربية الفنية بالجامعات، ما عدا ذلك فالأمر ما زال محدوداً وما زالت هذه اللوحة في صراع لإثبات مكانتها وقيمتها التي حظيت بها في مختلف دول العالم حتى لو كان هذا الاهتمام من طبقات معينة، أو متاحف ومع ذلك حظيت اللوحة التشكيلية المحلية بحقها من هذه الحظوة عوداً إلى ما يتمتع به نخبة من التشكيليين والتشكيليات من قدرات، وطاقات وخبرات عالية المستوى، تأهيل وتقنيات، تبدع لوحات لا تقل بأي حال عن مثيلاتها عالمياً، لكن الأمر يتعلق بالمجتمع المحلي باعتباره جزءاً من المجتمعات العالمية ومقدار تفاعله مع الفنون التشكيلية على مختلف تنوع فروعها ومنها اللوحات الفنية للتي ما زال انتشارها بين الأفراد في حدود ضيقة مبنية على الميل الخاص والذائقة والإمكانات المادية خصوصا إذا كان المقتني يقدر قيمة العمل الفني والفنان الذي قام على تنفيذه وتلك هي المعضلة التي يواجهها التشكيليون عند تسويق أعمالهم تلك.
وقد نرى فيما يحيط بهذا الفن وبالتحديد (اللوحات الفنية)، وفي مختلف دول العالم من تأثير تعدد الأذواق، وتنوع الثقافات التي تتعرض لحركة غير ثابتة لدى كل فرد، في كيفية قبوله للعمل الذي يقع تحت ناظريه، بناء على مقومات وشروط القبول لديه في كل أطراف الاختيار، منها الاختلافات بين الأساليب والأفكار، وبين الجمع بين الشكل والمضمون، بين عمل اعتمد على موضوع (معين) اختير لتنفيذه على الواقعية أو الرمزية والتجريد، أو على عمل ينطلق من (الفكرة الافتراضية) التي لا تظهر على الشكل المباشر في العمل الفني، وإنما تتيح للمشاهد البحث عنها من خلال ثقافة معينة، عالية التخصص وقريبة من معرفة تجارب الفنان وفلسفته، وتعمقه في تاريخ الفن والتغير الذي طرأ عليه.
فن سريع التبدل
ومجتمع بطيء التفاعل
وإذا بحثنا في واقع المجتمع العربي عامة، أو السعودي على وجه الخصوص بكل شرائحه، لوجدنا أن النسبة التي يمكن توقعها ممن لديهم ميول، وثقافة ووعي بالفنون التشكيلية تدفعهم للمتابعة والبحث عن جديد الفنانين لا تتجاوز الواحد في الألف من تعداد السكان (من البالغين) بالطبع رجالاً ونساء.
هذا التوقع الذي تبين لنا من خلال تجربة تزيد عن اثنين وأربعين عاماً، بين متابعة للساحة، وممارسة للفن ورصد لكل تفاصيلها، وتوثيق لمستوى الإبداع وتدرج مراحل الفنانين، ومتابعة للأجيال الجديدة وصولاً إلى التجارب المتفردة التي غيرت وجه الساحة بفنونها المعاصرة، استطعنا أن نؤكد أن الحضور التشكيلي بتسارع تطوره وازدياد أعداد المنتمين إليه من مختلف المستويات والقدرات مع ما شكله حضور المرأة التشكيلية من دعم يحمل جميعهم التأهيل العالي المستوى المؤطر بإمكانات في تنفيذ العمل الفني، لم يمنح الجمهور الفرصة للحاق بالمبدعين والإبداع نتيجة بطء التفاعل العائد إلى تدني مستوى الثقافة التشكيلية لدى الجمهور الذي ما زال يرى أن الفن التشكيلي مجرد سبل ترفيه أو نوع من التزيين لا يكلف أي من أفراد المجتمع نفسه لاقتناء لوحة لتعليقها في مجلسه الرسمي أو مكتبه إلا ما ندر كما أشرنا سابقاً ممن يندرجون في النسبة مع (الواحد في الألف) وإن وجد فسيكتفي باللوحات المستوردة التي تزدان بالزهور والأنهار ونخيل جوز الهند أضيف لها إطارات (براويز) على أعلى مستوى من البهرجة والتزويق تجدها مكررة في صالونات الحلاقة والمطاعم.
بين الواقعية
وتقليعات الفن المعاصر
هذا التراجع المجتمعي تجاه فهم اللوحة وأهمية فكرتها وقبل ذلك قيمتها كإرث وطني وتقدير مبدعها من أبناء الوطن خلق الكثير من الحيرة في محيط التشكيليين الذين انقسموا بين محبط ومتذمر ومتراجع إلى حد التوقف لعدم فهم الكيفية التي يتعامل بها مع مجتمعه، فالبعض أخذ مبدأ سلفادور دالي الذي يروى عنه أنه يقول (عندما أنوي القيام بإنتاج لوحة فإنني أتجاهل المجتمع).. قالها بعبارة أخرى قد لا يتقبلها القارئ لكننا لطفناها قليلا، هؤلاء يتعاملون مع إبداعهم بما يمليه الأسلوب أو التكنيك الذي تتطلبه الفكرة مهما كان غامضا غير مفهوم عند المتلقي العادي لخلو هذه الأعمال من أي مفتاح أو إشارة يمكن للمشاهد العادي الانطلاق منها حتى ولو كان ما يشاهده ضرباً من الخيال نتيجة ما توحي به إليه تلك الإشارات أو المفاتيح، هؤلاء التشكيليون لا يهمهم عدم اقتناء الجمهور لأعمالهم أو عدم ميولهم لها، مع أن هناك فئة لا تشكل رقماً بين البقية التي تمثل غالبية المجتمع يجدون في هذا الإبداع نمطاً وحداثة تناسب وعيهم وتتلاقى مع نظرتهم المشبعة بمثل هذه الفنون التي اكتسبوها من زياراتهم للمتاحف الحديثة أو مشاهدة المعارض ذات التوجه المعاصر.
أما الفئة الثانية من التشكيليين فهي التي تجمع بين الحسنيين (الحداثة بمزجها بعناصر من الواقع) بتقريب مفهوم العمل للمشاهد بإيجاد إيحاء من البيئة تتم معالجتها وتوظيفها في اللوحة بذكاء نتيجة خبرات متراكمة تبدو فيها اللوحة مكتملة البناء في توزيع العناصر واللون والاتزان بين الكتلة والفراغ بإيقاع معاصر وتوظيف حديث يلتقط المشاهد منها تلك الأجزاء والملامح تتشكل فتلامس شيئاً من الذاكرة البصرية لتحرك عقله الباطني فنوقظ فيه ما اختزله من تلك المشاهد ليعيد ترتيبها وصياغتها افتراضياً.
أما الفئة الثالثة فهي التي ترى في النقل المباشر التسجيلي من البيئة أسرع الطرق للوصول إلى عقل ووجدان المشاهد خصوصاً إذا كان مضموناً أو شكلاً في اللوحة له علاقة بهذا المشاهد أو ذاك ولهذا نجد غالبية التشكيليين التسجيليين يعمدون إلى الصور الفوتوغرافية لعناصر تراثية أو مواقع أثرية أو تاريخية لتحويلها إلى لوحات تكرر فيها مثل هذا المشهد وأصبح مملاً.
جاذبية الطبيعة
وعشق الفن الحديث
وحينما نحاول إيجاد قواسم أو لنقل جوامع مشتركة بين هذه الفئات الثلاث فإننا سنقع فيما وقع في التشكيليين من عدم تحديد ما هو الأفضل أو الأهم ومع ذلك وتبعا للواقع وعوداً إلى ما علق في ذاكرتنا من مشاهد لهذا الحضور والتنوع في الساحة مع ما يواجهه التشكيليون من صدمات في حال عدم اقتناء أعمالهم في كثير من المناسبات فإننا ننطلق من مبدأ اختلاف الأذواق الذي يفاجئ الفنانين عند تقديم أعمالهم فقد يكون ميول المقتنين لمشروع من المشاريع للأعمال الحديثة وفي مشروع آخر تجد الأعمال الواقعية التسجيلية النصيب الأكبر وهكذا.
لوحات تدفع البعض لاستنساخها
أما الجانب الأهم حينما نستحضر قضية تسويق اللوحات في ظل تنوع الأساليب وتجدد طرق التنفيذ في مجتمع ما زال يبحث عن تعلم أبجديات فهم اللوحة والوعي بقيمتها الفكرية قبل الشكل، سنجد أن هناك فجوة كبيرة لدى التشكيليين المحليين، بين من يميلون إلى إرضاء الجمهور وتسجيل الواقع والبحث عن سبل التسويق من خلالها، وبين من يرى في الحداثة مطلباً عالمياً وثقافياً معاصراً، فقد وجد الواقعيون والكلاسيكيون التسجيليون أيضا، تراجعاً أو تجاهلاً لأعمالهم لرداءة التنفيذ وسذاجة الطرح التي أدت إلى تشويه هذا الأسلوب، مقابل ما يشاهد من أعمال لها تاريخها وحضورها العالمي إن كانت من الأعمال التي برزت في عصر النهضة أو التي أبدعها المستشرقون من بيئتنا الشرقية من مصر والمغرب العربي والشام، التي يلعب فيها ضوء الشمس دوراً هاماً يضفي على ألوان الواقع لكثير من الجاذبية، هذه الأعمال أصبحت مثار إعجاب وقبول لدى الكثير خصوصاً الأثرياء لتجميل قصورهم ومكاتبهم مما دفعهم لاستنساخها وتنفيذها بأيدٍ محترفة بأحجام كبيرة تناسب المكان المراد تجميله بها. وقد لعبت بعض المؤسسات الخاصة بالفنون وبعض صالات العرض المحلية دوراً كبيراً في هذا الجانب.
والحقيقة أن هؤلاء بهذا التصرف قد أصابوا الهدف مع ما أشعر به من خيبة أمل في تردي الإقبال على إبداعات لفنانين المحليين مع ما يجده البعض من مجاملة في اقتناء بعض أعمالهم (أعني الواقعيين والتسجيليين) وإصابة الهدف هنا أعني بها نشر ثقافة اللوحة التي تخلو منها جدران منازل الغالبية.
monif@hotmail.com