يقدم القاص محمد البشير من خلال مجموعته القصصية «عبق النافذة» بعدا إنسانيا خالصا حينما تمتزج مسيرة السرد لديه بفنيات بناء منظومة من الصور الجادة التي تعكس رغبته في تقديم رؤية متكاملة تظهر فيها الفكرة بوضح، ويطل الحدث مقننا وتأتي اللغة متمكنة من أدواتها ودلالاتها.
فالقاص البشير يميل في هذه القصص نحو الإقضاب في بناء جملته السردية إيمانا منه ببناء الفكرة المتكاملة وترجمتها بشكل رشيق لا يقبل العرض أو التفصيل أو الإطالة.
فالقصص الأولى حوت رؤية معمقة لهمه الذاتي بوصف كاتبا ورجل علم يبحث عن جوهر الإجابة في ثنايا أسئلة يصوغها من واقع الحياة فكانت القصص ترشح بوافر من السرد المقتضب.. ذلك الذي يؤطر مشهدية القص التي عني فيها ولم يبارحه حتى آخر نص من نصوصها التي وضعها بين يدي القارئ.
في القصص رؤية جدلية تتجسد بنبرة خطاب إنساني لا يفارق همه البسيط وولعه القريب بكائناته التي تلاصقه على نحو قصص (دواء) و(ليلة) و(بدر) و(عبق) حيث صاغ منها رؤية عامة للمعاناة الإنسانية إلا انه استطاع أن يفصل حدثيا بين كل قصة وأخرى من منطلق وعيه في بناء معادلة ممكنة ترتق الفارق بين الحكاية بوصفها عالما بسيطا وبين القصة بوصفها فنا من فنون التلقي المعرفي والوجداني الذي يستخلص العبرة من معاناة البطل في قصة دواء على وجه التحديد حينما أراد أن يثبت لمن حوله في الحي أنه قادر على البقاء فحلا رغم تهاوي العمر إلى أرذله.
تقتفي هذه القصص ملمح التأزم والتحفيز حيث تبرز الفكرة بمضامينها المتعددة لتجسد الكثير من الأبعاد على الرغم من أن الكاتب البشير قد اعتمد في مخياله السردي على فكرة المباغتة والصورة المفاجأة في بناء المشهد السيري للشخوص الذين تضطرب حياتهم ليصنعوا من هذه المواقف التراجيدية بعداً مناسب للبوح.
لا ينفك مشروع القص عن مداومة استجلاب المفارقة على نحو قصة (عبق) من خلال حديث الروح الذي يستعيد فيه تفاصيل العلاقة بين الرجل والمرأة على نحو شفيف وبرؤية شيقة تشد القارئ وتستدرجه نحو تتبع منعرجات بقية هذه النصوص المولعة بالتقاط المفارقة وبناء الجملة السردية المحافظة على وجودها وبقائها متيقظة في الذائقة.
يلتقط الكاتب خيط الحكاية الاجتماعية لينسج للقارئ هذه التماثلات الملونة عن حكاية الإنسان الذي يكبله الألم، أي أنه يسترشد دائماً ببوصلة الهم أو العناء اليومي حيث تتوارد الصور العفوية والرؤى البريئة على لسان الرواة الذين لا يجدون كثيرا من الوقت أو هامشا من البوح لأن الحالة القصصية في هذه المجموعة محكومة ببناء مقتضب كما في قصص (جدار) و(الفأرنة) و(رأي) حيث جاء الاقتضاب مبنيا على بعد دلالي مناسب لا يحتاج إلى مزيد من الإطالة مما قد يتسبب ترهلا للنص وهذا ملمح مهم من ملامح تميز هذه المجموعة ورشاقتها.
فالاقتضاب هو الأمر الوارد في ثنايا نصوص المجموعة بشكل عام وإن كان هناك تقشف واضح في بعض النصوص مما يعكس رغبة الكاتب في بناء هذه الجملة السردية التي يستشعر أهمية أن يتفنن القاص بعرض ما لديه دون إطالة أو اعتساف في الاختصار الذي قد لا يفيد أو يوصل المعنى المراد من بعض هذه الحكايات والصور الاجتماعية الشيقة.. تلك التي تميل في أصلها وتكوينها على التقاط ما هو حكائي ممكن.
«عبق النافذة» إضمامة قصصية تنحو في مجملها منحى الملامسة والتلميح والإيجاز نظرا لوضوح الفكرة في القصص مما يتطلب قدرة مميزة في بناء هذه المعادلة الفنية التي تحيل أطراف الحكاية إلى ومض قصصي شيق وهذا ما ذهب إليه القاص محمد البشير.