نتساءل كثيرا لماذا يكره الإنسان الإنسان ولماذا يخرج مِنا وعلينا من يدعو للكراهية والتحريض، فنعقد اللجان والهيئات الاستشارية لنبحث عن حلول فكرية ومبررات شرعية لمد جسور التقارب وتبيان ضرورة التسامح عبر الدعوة لتطوير المناهج وإعادة قراءة النصوص المختلفة وتأويلها بما يتلاءم والواقع، فيقبل بذلك من يقبل ويعارض ذلك من يعارض وكلاهما لديه منطقة في امتلاك الحقيقة؛ فالأول الداعي لقراءة النصوص من جديد يرى أن هذه هي حقيقة النصوص وهو فقط يعيد تأويلها وتفسيرها بالشكل الصحيح بما يتناسب وواقع الأمة، أما الثاني فهو يرى بمنطقه أيضاً أنهُ على الواقع مهما تغير أن يستجيب لثبات النص المقدس وليس العكس، وهنا يصطدم الطرفين بإشكال منطقي لا يمكن تجاوزه إلا بإعادة تشكيل السؤال قبل البحث عن إجابة، فالسؤال بالشكل الذي تؤيده التوجهات العلمية الحديثة النفسية منها والاجتماعية وحسب ما أفترضه أنا هنا هو ليس «لماذا نكره» ولكن « كيف نحب»؟!
أما أهمية طرح هذا السؤال بهذه الطريقة فهي التخلي مبدئياً عن الحكم الضمني المُعتاد لسؤال «لماذا نكره؟» (وهو أن الحب مسألة غريزية مقابل الكُره الناشيء فقط عن استعداء عقَدي أو ثقافي)، فالحب ليس شعوراً غريزياً بالمعنى الفطري كما نحب تصوير ذلك لأنفسنا، ولكنه شعور مُكتسَب لذلك يصبح السؤال بشكل أكثر دقة، لماذا وكيف نكتسب هذا الشعور ولماذا نفقده، وكيف يتطور بنا الأمر للضد أي الكره، وحتى نعرف كيف نحب ولماذا نحب لا بد من أن نعود لبداية الحكاية الإنسانية.
الخوف هو العامل الوحيد القادر على أن يجمع بين السلب والإيجاب وبالتالي بين ضرورتين، ضرورة بيولوجية أولى من أجل البقاء في وسط ظروف بيئية طبيعية خطرة، وضرورة شعورية نفسية تكتسب أهميتها بطريقة غير مباشرة من حاجتنا النفسية للأمان من أجل تقليل أي توتر أو قلق وجودي ممكن لدرجة مقبولة يمكن معها وبها الحياة. الرضيع الصغير لا يُولد وهو يحمل مشاعر محبة غريزية لأمه بقدر ما يحمل «خوفه الصغير»، سلاحه النفسي والبيولوجي لمواجهة مخاطرالحياة المقبلة، هذا الخوف الصغير يبدأ في أخذ مسار مختلف نحو الاطمئنان قليلاً مع بداية تشكل الحواس وهنا نعني حاسة السمع تحديداً التي تساعده على سماع صوت أمه وتمييزه وقت الحمل، ومع تكرار السماع يعقد ألفته الأولى التي سيثق بها فيطمئن لها ومن ثم يُحبها.
إذن الخلاصة «مَن» أو «مَا» سيوفر لنا هذا الشعور بالألفة والأمان، شخص أو معتقد أو فكرة، سنحبه بشروط الألفة التي يقدمها لنا مبدئياً، ثم قد يصل بنا الحال إلى أن «نتعصب» له ونتعلق به دون قيد أو شرط خشية العودة لذات القلق والتوتر، إذن نحن لا نحب فقط مَن/مَا يزيل عنّا الخوف ويُشعرنا بالأمان بل «نؤمن» و» نعتقد « به على أساس أنه هو الحل ونخاف ما سواه ولا نحبه وقد نكرهه ونتعصب ضده لأنه تهديد واضح لوجودنا المادي، ومن هنا فإن خطورة المعتقد الفكري أو الديني ودوغمائيته تكون حين يُصبح هو من يدعم وجودنا المادي (حياتنا) ويحافظ عليها وليست حياتنا هي من تدعم وجوده وتنميه فكراً وشرعاً!
«مخاوفنا النفسية» تجاه هذا التهديد الوجودي المادي تأتي على ذات خط الزمن التاريخي إنسانياً، بل وأقدم بكثير من أخلاق التسامح والمحبة، وأقدم أيضا من تفاصيل خلافاتنا الفقهية والعقدية والثقافية إجمالا، فهي ترتبط بتكويننا الطبيعي قبل أن تتطور وتتعاظم في تشابكها مع مكوناتنا ومنظوماتنا الثقافية لاحقاً، وإذا لم نستطع أن نفهم هذه المخاوف ونتفهمها فلن تكون هناك أي أرضية مشتركة لحوار فاعل ينتج عنه وعي معرفي نتجاوز به هذا النوع من المخاوف.
إذن ليست خلافاتنا «الظاهرة» التي يعتبرها البعض تافهة! هي من تستهلكنا ونستهلكها، ولكن ما نخفيه نحن خلفها من مخاوف عميقة هو ما يستهلك طاقاتنا وجهودنا بوعي قليل وبلا وعي كثير، وإن كنت عزيزي القارئ لهذه اللحظة تعتقد بأنني أتحدث عن الخوف الذي يقابل الشجاعة والفروسية كما أسّست لهُ ثقافتنا فالذنب ليس ذنبك ولكنه ذنب سنين طويلة من الصراعات السياسية والفِرق الطائفية وما يتبعهما من إعلام شعري وثقافي، موالي أو معارض، مع الحاكم أو ثائر على الحاكم. «منطق الصراع» الذي لم يتوقف على مر تاريخنا إلا نادراً هو من خلق سلطاته المعرفية والسياسية لمواجهة مخاوفه الوجودية، فهو من مصلحته تماماً أن يُظهر الخوف على أنه معادل فقط للجُبن حتى يستغله الباحث عن سلطة ما (دينية معرفية أو سياسية عسكرية) في صراعاته وحروبه تحت مُسمى شجاعة.
وهذا التصور للخوف ولاستغلال المخاوف الإنسانية بل وصناعتها نجح في مجتمعات قبليّة تعتمد اقتصادياتها الحياتية على الغزو وبالتالي فإن تضاد الشجاعة الجسدية مع الخوف النفسي كانا مقبولين كمفهوم بيولوجي من أجل البقاء في ذلك الزمان، ولكنه غير مقبول بمفهوم المجتمعات والدول المدنية الحديثة التي تجاوزت مع استقرار أنظمتها الأمنية وتكاملها اقتصادياً ودبلوماسياً هذه القشور من «المخاوف الأمنية» المادية لتعود بوعي نقدي عالي لمناقشة «مخاوفها الوجودية»، وما يجب أن تكون عليه بكل حريه مُشكِّلة بذلك وعياً مغايراً في نظرتها للحياة.
المؤسف محلياً وعربياً ليس وجود المخاوف لأن انعدامها تماماً نتيجة مستحيلة ولكن المؤسف حقا نوعية هذه المخاوف، فما تزال مخاوفنا لهذه اللحظة بدائيه أي من «النوع الأمني» الذي يُثير خوفنا على وجودنا المادي وما يتبعه من حاجات طبيعية فسيولوجية، أكثر منها مخاوف وجودية فكرية تثري وجودنا المادي والدنيوي، وهذا ينعكس جلياً على طبيعة خلافاتنا وما يتبعها من مخاوف حول مظاهر حياتنا وشكلياتها أكثر منها مخاوف حول عمق حياتنا في حاضرها ومستقبلها، كما أنه يظهر أيضا في نوعية اتهاماتنا المتبادلة من تخوين وعَمَالة وتآمر، وكلما اعتقدنا بأننا تجاوزنا هذا الأمر لمناقشة أمور فكرية أكثر أهمية وتعقيدا نجد من يعيدنا لذات المخاوف والهواجس التي تتملكه ليُعيد مجتمعاً بأكمله لحكم إحكام القبضة بدلاً من حرية إطلاق الفكر.
ندّعي الخوف على عقائدنا وتقاليدنا المثالية وبأننا نحارب من أجلها الحضارات المادية في حين أن خوفنا الحقيقي ما زال خوفاً ماديا بدائياً يتذرع بمثالياته في مواجهة واقعه الفكري المتأخر والمرير. خوف على هوية مادية يتوارى خلفها ما تبقى لنا من هوية الأجداد الفكرية في ظل ما نشهده من تشكل عالمي لهويات فكرية جديدة ومنافسة، النتيجة هنا أن طبيعة مخاوفنا النفسية وكيفية معالجتها هي ما يجب أن يتنبَه له القائمون على مواجهة أصوليات الغلو والتطرف، كما يجب أن يتنبه له قبل ذلك القائمون على نقد تراثنا الديني خصوصاً والثقافي عموماً، فالتراث صندوق ذاكرة قديم مفتاحه النقد، ولكن لنعلم أن هذا الصندوق مهما كان قديماً إلا أن لديه هو أيضا منطقة المتغير والمُقاوم الذي توفره وتحافظ عليه باستمرار رغبتنا الأولية نحن أصحابه في البقاء لمجرد البقاء وإن اضطرّنا ذلك للتحايل نفسياً على مخاوفنا الوجودية الأعمق وجعلها مخاوف أمنية ظاهرية، نُقاتل ونقتل من أجلها كحلّ بدائي وأخير للبقاء يَجد له في المقابل (دائما وأبدا) من لهُ المصلحة السلطوية في التشجيع عليه بالضغط فقط على زناد الشجاعة والدين والكرامة. ويبقى جواب السؤال سؤال، كيف سنرتقي بمخاوفنا لنتخلص من كرهنا البدائي ونتفرغ لبناء وعي جديد وتحقيق ذوات منافِسة؟!
-
+
alturki.tt@gmail.com
- جدة