بعد شهر من تولي معالي وزير الثقافة المثقف الدكتور عبد العزيز خوجة وزارة الثقافة كتبت مقالة تنتقد بعض العبارات التي ذكرها في لقاء له في «جسد الثقافة» وكانت المقالة إلى حد ما «حادة»، وفي نفس يوم نشر المقالة هاتفني معالي الوزير وأثنى على المقالة وعلى شجاعتي وعلى مقالة قبلها دون لوم أو عتاب، ودون أن يسرد لي سيرته الشخصية وأنه صاحب شهادات وأنه تقلد العديد من مناصب الدبلوماسية، لم يقل أو يشير أو يلمح بأنه أكثر مني خبرة أو أعلى مني مرتبة علمية أو أكثر مني حكمة بفضل السن والعمل وبناء عليه فما يقوله هو الصحيح لا يخالطه أي خطأ وما أقوله أنا هو من «وسوسة الشيطان» وعليّ الاستغفار.
واكتشفت يومها فيه أربعة أمور هي: ثقته بنفسه وتواضعه الشديد فهو يتحدث معك كمثقف وكصاحب رأي لا كوزير وأنت مثقف تحت مسئوليته، والأمر الثالث احترامه للرأي الآخر، والأمر الرابع تشجيعه المثقف على الاختلاف وحرية الرأي والفكر، وتقديره لعقلية المثقفة.
وفي نهاية المهاتفة طلب مني أن أكتب كل ما أريد وأنشره وكل الإشارات أمامي مفتوحة، وتكرم بإعطائي رقم جواله ورقم مدير مكتبه وقال لي: إنني أستطيع أن أتصل به واستفسر عن أي شيء، واعتبرت هذا الطلب بمثابة «عقد اتفاق» بيني وبينه يجوّز لي حرية نقد الوزارة أو التعليق على تصريحات معالي الوزير نفسه.
وعندما كتبت مقالة عن «قناة الثقافية» وكانت إلى حد ما «حادة» هاتفني معالي الوزير وكعادته أثنى على شجاعة طرحي ووجهة نظري في الموضوع وطلب مني أن أحضر إلى مكتبه مع مجموعة من المثقفات وذهبنا، وإعجابي بالوزير زاد عندما تقابلنا معه فهو على المستوى الشخصي شديد التواضع حتى إنه لم يُشعرنا بأننا في حضرة وزير، إضافة إلى «الرقي الرفيع» في تعامله وكلامه وطرح وجهة نظره، يتمتع «بأسلوب ساحر» للإقناع، يمتزج بشاعرية شفافة.
وبعد اللقاء تأكّدت عندي الأمور الأربعة التي شعرت بها في الاتصال الأول: الثقة بالنفس والتواضع واحترام الرأي الآخر والتشجيع على حرية الرأي وتقديم الفرصة للمبدعين، واحترامه المرأة عامة والمثقفة خاصة، لا مثل بعض أدعياء الثقافة لدينا الذين يشجعون على التمييز ضدها واضطهادها.
وهذا أمر غير مستغرب، فمعالي الوزير المثقف الدكتور عبد العزيز خوجة، رجل غاص في دهاليز الدبلوماسية ففكره متفتح مؤمن بحرية الرأي الآخر والمرأة، لم يأتِ من مدرجات الجامعة يحمل عقدة الاستاذية ولم يخرج لنا من خلف غرف الإدارات المغلقة وهو يحمل عقدة الدكتاتورية والعنجهية، فقد اعتاد على المناصب العليا، وكما نقول بالعامية «عينه مليانه».
وفي شوال الماضي وقعت لي مشكلة ثقافية اتصلت بمعالي الوزير على جواله بعد أن نصحني بذلك استاذنا حمد القاضي وكان حينها في الصين وشرحت له المشكلة وخلال 24 ساعة كانت المشكلة قد حُلّت، وهذا موقف إنساني لن أنساه للوزير، فكان من حقه بما أنه في إجازة رسمية وفي ظرف طارئ عائلي، ألا يرد علي ولا يهتم بموضوعي، لكن العكس هو صحيح أهتم بالموضوع بصورة أدهشتني وزادت من إعجابي بهذه الشخصية.
هذا هو الدكتور عبد العزيز خوجة يتعامل معك كمثقف مع مثقف صاحب رأي مع صاحب رأي دون اعتبارات الجنس والسن والمنصب والشهادة، لا وزير مع مثقف، ليس لديه عقدة المنصب ولا عقدة الاستاذية أو الدكتاتورية الإدارية.
إذا كنتُ أمتلك شجاعة نقد الوزارة أو التعليق الحاد على تصريحات الوزير، ففضل تلك الشجاعة تعود إلى معالي وزير الثقافة المثقف الدكتور عبد العزيز خوجة فهو من أول اتصال وفي كل اتصال يشجعني على أن أقول ما أريده وأنني حرة في كتابة كل ما أريده حتى لو كان الأمر متعلقًا به، وأنه سيتابع كل ما أكتبه وأنه يفضل الكاتب صاحب وجهة النظر المختلفة لا من يوافق على كل شيء، هذا هو الدكتور عبد العزيز خوجة المثقف الذي علمنا الديمقراطية وحرية الرأي.
في مقالتي الأخيرة «هل ممكن أن تصبح المثقفة وكيلة لوزارة الثقافة» هاتفني معالي الوزير خوجة في نفس يوم نشرها وكنت قبلها بدقائق استمع إلى قصيدته «قهوة المساء» عندما سمعت صوته قلت له مباشرة تصور يا دكتور قبل قليل كنت اسمع قصيدتك «قهوة المساء» ضحك وتحدثنا عن القصيدة وذكر لي مناسبة كتابة هذه القصيدة، وذكرت له انطباعاتي الوجدانية عنها، بعد ذلك ناقشني في وجهة نظري لفكرة «التعيين بدل الترشيح» وكعادته قبل أن ينهي الاتصال أكَّد على نفس الأمور التي يؤكد عليها دائمًا أن الإشارات أمامي مفتوحة لأكتب كل ما أريده وأنه يحترم الرأي الآخر ويشجع المثقف على حرية الاختلاف، وكما قال لي: «حتى أبنائي لا أفرض عليهم أن يقولوا كلمة نعم».
هذا هو معالي وزير الثقافة المثقف الذي علمنا الديمقراطية وحرية الرأي، لأنه مؤمن بأن المثقف صاحب رأي وله حق النقد وإبداء وجهة النظر فيما يتعلق بالثقافة من أشخاص وأشياء، وليس مجرد قطعة شطرنج تتحرك حسب أهواء المسئول الثقافي يفرض عليه ما يقول ويحدد له جدول الصواب والخطأ، ومواقيت الحديث والسكوت.
ما لفت انتباهي من أول اتصال مع معالي الوزير المثقف الدكتور عبد العزيز خوجة وحتى اتصاله الأخير «طريقة تعامله الراقية مع المثقفة» البعيدة عن التمييز، واحترامه لعقلية المثقفة، ورأيها وهذه من الأمور التي شدتني إلى الوزير خوجة من أول اتصال، فالمثقفة السعودية لم تتعود على أن تقابل مسئولاً ثقافيًا يحمل هذا النوع من الثقافة «التصالح مع عقلية المثقفة».
قد يظل اختلافي مع مواقف الوزارة من بعض الأمور وخصوصًا فيما يتعلق بالمثقفة وعشوائية مضامين الأجندة الثقافية قائماً، ولا يقلل هذا من احترامي للوزارة وإستراتيجيتها. وقد يظل اختلافي مع وجهة نظر معالي الوزير المثقف الدكتور عبد العزيز خوجة في بعض الأمور أيضًا قائماً، ولا يقلل اختلافي معه من احترامي له ولا يقلل اختلافي معه من احترمه لي. وسأظل كما طلب مني الوزير خوجة أكتب كل ما أريده وفق ما أعتقده بدون جدول الصواب والخطأ، وليذهب من لا يعجبه ما أكتبه عن الوزارة «إلى الجحيم» طبعاً مع احترامي وتقديري «للرأي الآخر»، وحقه في الرد.
سيظل معالي وزير الثقافة المثقف الدكتور عبد العزيز خوجة «علامة فارقة» في تاريخ الثقافة السعودية وسيحتفظ له تاريخ الثقافة السعودية بأنه «المهندس الحقيقي للانتخابات الثقافية» وبأنه «قاسم أمين»، الثقافة السعودية الذي آمن بحق المثقفة في صناعة القرار الثقافي الرسمي، وقبل كل شيء هو الوزير المثقف الذي علمنا الديمقراطية وحرية الرأي. و»أتعبت الوزراء من بعدك يا دكتور عبدالعزيز».
ضوء:
من قصائد الدكتور عبد العزيز خوجة المحببة لي قصيدة المتمردة «ماذا أصنع في أنثى.. تقتلني.. وأنا أمنحها روحي.. أمنحها الفرصة كي تولد.. أهديها الدهشة كي توجد.. في يدها حق النقض... تأسرني في قفص.. في سابع أرض».
وقفة:
إلى قائد سفينة المجلة الثقافية إلى المثقف الشفاف الذي لا ننسى فضله أيضًا في تعليمنا حب الديمقراطية وحرية الرأي وقبول الآخر.. الدكتور إبراهيم عبدالرحمن التركي.. ألف سلامة وما تشوف شر.
-
+
جدة