كنا في المقال السابق نتحدث عن حيرتي بسبب الازدواج بين الواقع العربي وبين أزمة العقل إلى أن توصلت إلى أن العربي يركز كثيراً على رؤية العالم في الذهن دون أن يقرنها برؤية للواقع، مما يجعله متحيزاً لتلك الصورة الذهنية، ويؤدي به إلى ازدواج بين المضمر والظاهر. فإذا أضفنا إلى تلك الحالة ما تفعله به الكلمات، فإن مساراً مضطرباً يجعل التعرف على حدود ذلك التشويش أمراً صعب المنال. حيث لا يوجد موقف مشاع ومطلق يقف فيه من يريد الوصول إلى الحقيقة، ويكون منطلقاً له للحكم أو الحصول على المعرفة الموضوعية والمطلقة بالعالم. ثم إن البشرية في تاريخها لم تعرف اتفاقاً على القيم الأخلاقية والمعايير العامة لكثير من مقومات الحياة على الأرض أو للتمتع بما فيها من جمال، أو بما أنتجه الإنسان نفسه من أعمال فنية أو منجزات؛ فكل مصطلح قيمي يُفهم في كل مجتمع بطريقة مختلفة عن فهمه لدى مجتمع آخر، ويرتبط ذلك الفهم بالقيم الأخرى الموجودة في المجتمع ومصالحه الآنية.
وأظن عدم عقلنة الوسائل الحياتية والفكرية في البيئة العربية قد أدى بها إلى التشتت، وإلى عدم وجود هدف عقلاني للقيم؛ مما يعني انعدام المسؤولية وفقدان الانتظام في دورة التكامل بين إسهام الفرد في البناء، واعتراف المجتمع بذلك الدور وبضرورة حمايته وتكثيفه. وفي هذه الحالات السلبية ينشأ التعدد في تكوين مرجعيات القيم، فما تفسير ذلك التعدد؟
لا تفسير للتعدد في مرجعيات القيم، إلا أن تكون آليات بناء تصور للعالم مختلفة من مجتمع إلى آخر، ومن بيئة داخل المجتمع إلى أخرى، بل ومن فرد في تلك البيئة إلى غيره. فكما أن الثقافة تصنع جزءاً من تلك المرجعيات، فإن المصلحة الفردية أو الجمعية الضيقة تسهم أيضاً في ترسيخ بعض هياكلها، أو قبول بعض الإملاءات غير المنطقية، أو إحداث ردود فعل لا تتناسب مع رؤية متزنة للأمور.
وانطلاقاً من الموقف الصلب في فلسفة تشارلز تشابلن من أن طرق الحياة المتفرعة لا توجد لها لوحات إرشادية؛ فإن مرجعيات القيم هي ما يمثل ملجأ للفرد وللجماعات في الاستنارة بها عندما تتفرع الطرق، وتلتبس الأمور، وتزداد الحاجة إلى اتخاذ القرار. لكن البيئة العربية تفتقر إلى مثل تلك المرجعيات. سيهب كثير من المناضلين الكلاميين لإنكار مثل هذه المقولة؛ ما هذا؟ أين قيمنا العربية والإسلامية الأصيلة؟ وأقول في هذا المجال، إن العربي يعرف هذه القيم بشكل مفرد ونظري، وهي مكتوبة في تراثه، لكنه لا يجدها بوصفها منظومة حياة يسترشد بها، وتمثل منطلقاً لتطبيقها في واقعه اليومي.
وإذا كانت لرؤية العالم هيئات ثلاث: الهيئة الواقعية، والهيئة المثالية، والهيئة الرمزية، فإن الأخيرتين هما ما يتمثل في الخطاب العربي، مع تقسيم الهيئة الرمزية إلى عناصر إيجابية أو سلبية، وتضخيم لرمزية الجانبين، خاصة إن كانت مصادر تلك الإيجابية أو السلبية هي الدين أو العادات والتقاليد. أما الهيئة الأولى (الواقعية)، فإن تمثلها يكاد يكون محصوراً في مناطق محدودة جداً. ولا يتجاوز -غالباً- التعامل مع الآخر البعيد جداً أو القوي جداً؛ إذ لا بد من تلمس الواقع في مثل تلك الحالات.
فكلما ارتفعت مكانة المرء، زادت مساحة السماح له بارتكاب الأخطاء. بل إنه حتى وإن لم يصنع سوى الأخطاء الفادحة، فإن مقولة: «هذا هو أسلوبه في الحياة» تكون مبرراً للتغاضي عن أخطائه. وفي المقابل لا يتسامح المجتمع، ولا يتغاضى عن أخطاء أصحاب المواقع الدنيا، حتى وإن كانت قليلة الورود وضئيلة الفداحة.
-
+
الرياض