في مساء من مساءات الشهر الماضي كان لي شرفُ إدارةِ محاضرة في منبر الحوار بأدبي الرياض تحت عنوان: (قضية الأدب الإسلامي) للأستاذ الجليل د.عبد القدوس أبو صالح (رئيس رابطة الأدب الإسلامي العالمية)، وكنتُ وقتها أحسب أنّه سيقدّم ورقةً حاسمةً في قضية الأدب الإسلامي، تتقرّر بها الرؤوسُ على الكواهل، وتُحسم فيها قضايا لم تُحسمْ من قبل كما ينبغي؛ لذلك جئته محمّلاً بأسئلة لا حدّ لها، مستعداً لمشاكسته وإثارته؛ ابتغاء الحصول على موقف صريح للرابطة من نفسها أولاً، ثمّ من الحركة الأدبية الجديدة، التي خرقت مواثيقَ الكمّ والموضوع والخطاب.
وحين صافحتُ الشيخَ في مكتب رئيس النادي، أفضيتُ إليه بسياسة المنبر في إدارة الأنشطة، وأنّ لورقته نصفَ الساعة وللضيوف مثلَ الذي له أو زيادة: يسألون ويضيفون ويعترضون، ففاجأني الشيخ الجليل وهو يطلبُ مني ساعةً كاملةً للحديث، أو خمساً وأربعين دقيقة على الأدنى، فاعترضتُ على ذلك بأدبٍ يشهد عليه كلُّ من حضر، ثمّ أفهمته أنّ الورقة في منبر الحوار، وأنّ الحوارَ يعني التدافعَ والتداولَ والتطارحَ، ولا يعني الإلقاء ولا الفرض...، ثمّ إننا في عصر السرعة، والناس في هذا العصر قد اعتادوا على الاكتفاء من القلادة بما يحيط بالعنق، وجمهور نادي الرياض تعوّد - أكثر من غيره - على إبداء رأيه، ومشاركة الضيف، والتداخل معه...، ثم أخبرته أنني سأبدأ المحاضرة بطرح تساؤلات مثيرة، قد يعدّها بعضهم مشاكسة، لكنّها في حقيقة الأمر إثارةٌ للضيف الكبير؛ ليقول ما لا يُقال - عادةً - في لحظات الهدوء.
لم أنته من حديثي إلا بعد أنْ علا الشيخَ غضبٌ تشقّق من بعدُ لهباً، وأحاطت به الثورةُ إلا قليلاً، فأقبل على (الوشمي) بنفسٍ تكاد تميّز من الغيظ، وهدّده بالانسحاب إن لم يُمْنح الوقتَ المتفق عليه (45 دقيقة)، وإن لم يغيّر مديرُ المحاضرة طريقته في الإدارة.
اضطرَّ الوشمي إلى احتواء الشيخ كما يحتوي كلَّ أحد، وأشار إليّ بلباقة متناهية: أنْ تنازل قليلاً، فأجبته إلى ذلك، وأدرتُ المحاضرة كما يدير الجمودُ نفسَه...، خرجتُ فيما بين فاتحتها والخاتمة من حياة إلى موت، وتجليتُ لمن يعرفني جدثاً مهملاً في قفر بليد.
عرّفتُ الحضورَ بالضيف، وكنتُ أتطلع إلى أنْ يتعرّفَ إليهم بنفسه، ودعوته من بعدُ إلى الحديث، ثمّ ارتميتُ على الكرسيّ ومتّ، وأما الشيخ فقد تحدّر من علٍ، بكلامٍ كنتُ سمعته منه ومن بعض طلبته قبل عشر سنوات أو أكثر، وكنتُ قرأته لآخرين قبل خمسة عشر عاماً أو تزيد.
سكتُّ عن مسافات شاسعة خلّفها الشيخ في محاضرته، وخرجتُ منها كما دخلت، بل ازددتُ وزناً بالحزن الذي حملته على جمهور جاء ليسمع من الشيخ شيئاً جديداً، وخرج ولم يسمع منه شيئاً.
ألقيتُ نظرةً في منتصف المحاضرة على الجمهور، فإذا هو جمهور الشيخ الجليل، الذي يرافقه من مكان إلى آخر، وإذا هم أتباع الرابطة بأعيانهم وأعلامهم، وأكثر المداخلات كانت في صفِّه، تصفِّق له، وتلمِّع ورقته، وتغسل عنها العتاقة والقدامة، ثم تثني على الأدب الإسلامي ومشروعه، وتبشِّر بأنْه سيبلغ ما بلغ الليل والنهار، بعزّ عزيز، أو بذلّ ذليل.
وحين طلبتْ الناقدة سعاد المانع التداخل، وجدتُ في طلبها فرصةً للانتقال بالنشاط من الفرض إلى العرض، ومن الإلقاء إلى الحوار، ومن أجواء الخطبة إلى أجواء المحاضرة العلمية، لكنها طرحتْ أسئلة لا تحمل في طيّاتها معنى الاختلاف التنوّعي أو المضادّ، فوجهتُ إليها سؤالاً انتقده بعضُ الجمهور: « د.سعاد، أحسبك من المعترضين على مشروع الأدب الإسلامي، أليس كذلك؟ «، فأجابت ضاحكة: « لا، لستُ من معارضيه»، بهذه الإجابة سقط أملي الأخير في وجود رأي مضادّ لمشروع الأدب الإسلامي، يجعلنا أمام ليلة حوارية، تتغيا بلوغ مناطق أبعد في توصيف المشاريع وتحليلها.
انتهت المحاضرة، وحين أردتُ الانصراف استوقفني الشيخ الجليل، وشكر لي الطريقة الجميلة التي أدرتُ بها محاضرته!!
إنّ أولى المشكلات التي تحيط برابطة الأدب الإسلامي تتعلق ببعض أعضائه، الذين يتبادلون الأدوارَ من مكان إلى آخر، بحيث يعقّب نائب الرئيس على محاضرة الرئيس ليعقب الرئيس من الغد على محاضرة نائبه، وتمر الأيام عليهم وهم يدورون على بعضهم كما تدور الرحى، لا يتقدمون خطوة، ولا يطئون موقعاً جديداً.
كان بودي لو أنّ (أبو صالح) جاء إلى النادي وهو راغب في الاستماع إلى جمهور جديد، يرصد من خلاله موقفه من الرابطة وأنشطتها، لكنه لم يفعل، ولا أحسبه يفعل وقد طلب مني أن أختصر المداخلات لأنها لا تحمل في ذاتها قيمة معيّنة، ولأنها - كما يرى - مظنة «استعراض العضلات»!!
يتحدث الشيخ في أكثر من موضع - وكذلك يفعل أعضاء الرابطة - عن التيارات المنحرفة التي تحاصر العقل العربي، وتحيط بقوّتها الأدبَ إبداعاً ونقداً، لكنه لا يتحرف - ولا يتحرّفون - إلى محاورة أتباع هذه التيارات، من خلال تضييفهم في أنشطة الرابطة، أو طرح أنفسهم على أنشطة الخصوم.
لقد اتهم بعضُ أعضاء الرابطة القائمين على الأندية الأدبية بإقصاء الأدب الإسلامي وأعضائه، وصدّق بعضهم هذه الكذبة، فأخذ يقنع بها نفسه العاجزة عن المطارحة والتدافع، وأشاعوها بين طلابهم حتى صارت حقيقة لا يمكن لأحد أن يسقطها، وها هو (الوشمي)، يفتح لهم أبوابَ النادي كلَّها، ويضيّف رأسَ الهرم في أكثر أنشطته جذباً للجمهور، لكنّ الشيخ الجليل لم يحسن استثمار هذه الفرصة لصالح مشروعه، فتوّعد بالانسحاب كما لو كان النادي محتاجاً إليه أو إلى الفرصة، واستكثر عليّ وعلى الجمهور أن نختلفَ معه، وأن نطرحَ بين يديه رؤانا.
لم أكنْ يوماً من أعضاء هذه الرابطة، ولم أحضر أنشطتهم الخاصة، لكنني أؤمن بغيرتهم على تراث الأمة وقيمها، وأُكبر في مشروعهم دفاعه المستميت عن الكلمة الطيبة، واتكاءه على الكتاب والسنة؛ لذلك أجدني مستاءً مما يفعله أعضاء الرابطة بأنفسهم وبمشروعهم، فقد انقطعوا إلى أنفسهم انقطاعاً يشبه الانتحار، وخرجوا طائعين من الزمن، وصاروا يكتبون لأنفسهم ويقرؤون لها، ولا يهمّهم موقف الآخرين من مشروعهم، ولا المساحة التي يحتلها مشروعهم من الأدب العربي ونقده.
لقد حزنتُ حزناً كبيراً على هذه التجربة، فكتبتُ هذه الأسطر؛ علّها تحيي في الشيخ الجليل وأعضاء الرابطة بعضَ إحساسٍ بالمسؤولية، تدفعهم إلى أن يستمعوا إلينا كما استمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى (عتبة بن ربيعة)، استماعاً زاده جمالاً افتتاحه بقوله: «قلْ يا أبا الوليد أسمع»، واختتامه بقوله: «أو قد فرغتَ يا أبا الوليد؟!»
وإنْ لم يفعل الشيخ الجليل وأعضاؤه ما فعل النبي الكريم، فليسوا جديرين - من وجهة نظري - بأن ينهضوا بمشروع يستمدّ طاقته منه، ومن أصحابه، وتابعيه.
-
+
alrafai16@hotmail.com
- الرياض