بعد قراءات مستفيضة متنوّعة عن «الدرعية»، وبعد الاستماع الى العديد من المرويّات عن تاريخها وعن طبيعتها، أَخَذَني الشَغَف بحب الاستطلاع «العياني» المباشر منطلقاً من هتاف الشاعر «بشّار بن برد» حين قال:
يا قوم أُذني لبعض الحيّ عاشقةٌ
والأذنُ تعشقُ قبلَ العين أحياناً
بتلك الحماسة المكلّلة بالغبطة وفرح الذاكرة، توجّهتُ مع صديقي الكاتب «عبدالله بن محمد الناصر» الى إحدى أجمل وأَميَز واحات «وادي حنيفة»، هذا الوادي الذي استقطب الاستقرار الحَضَري والبناء الحضاري الأصيل منذ أقدم العصور.
ولقد شعرت من خلال شروحات الصديق المحبّ عبدالله عن «الدرعية»، كيف تأخذ التفاصيل الصغيرة أهمية وجودها، مستعيدةً رَوْنَق حضورها وفعالية دورها، وكيف تتآلف «الأجزاء» وتتناغم وتتوحَّد مُعلنةً شهادتها بالحقّ لجوهر «الكل».
وإذا كان العشق يأسر النَفْسَ- أحياناً – عبر «الأذن»، فإنه هنا مع «العين» كان «صاحب أمر ونهي وسلطان»، وذلك بإرسائه «حال» الثبات، وتكريسه «مقام» الدوام، ولهذا بَقِيَتْ «الأحايين» ملحقةً بالصدفة وتابعة لها، حيث دخل «السمع» في عباءة «البَصَر» وأصبح في رعايته وحماه.
دخلنا منطقة «وادي حنيفة» الذي شكَّل بانعطافه «العوجاء»، وهو الاسم التقليدي الذي عُرِفَتْ به «الدرعية» المتفرّدة بوفرة الروافد والشعاب والاراضي الخصبة، التي جعلت منها ملاذاً وموئلاً ومقصداً للاستقرار المفتوح على الرؤى الاستشرافية الكبيرة المُولِّدة لحراكٍ فكري إيجابي لا يهدأ، والحاضنة لِتَفتُّح وسطوع المخيّلة الشعريّة والإبداعية على المستويات كافة.
لقد كان هذا «المكان» مقرّاً ومستقراً للكبار، وكان معبراً وممراً للكبار، ولذلك فقد تخطّى معنى «الجغرافيا» ودَخَلَ عميقاً ومكيناً في صنع التاريخ.
وبالمشاهدة الدقيقة لأشكال ومضامين «الدرعية» يظهر لنا بوضوح مبدأ «المصالحة» بين الإنسان وبين الأرض، فتزاوج وتمازج لون الرمل المتوهِّج بكل درجاته مع الطين المجفّف المشغول بعناية لتتصاعد العمائر برفقٍ وجمال وإباء، ولتعلو الطباق بتواضع ومنعة وأنَفَة، حيث تكاتفت الجدران وتساندت وتماسكت وأرخَتْ بظلالها على بعضها البعض مضيفةً تشكيلات جديدة متحرّكة تبعاً لتنوّع سطوع أشعّة الشمس على امتداد طوال النهار. هكذا انداحت «الدرعية» «بهندستها» الأفقية «المزنّرة» بقامات النخيل المنتصبة دائماً في حال «ابتهال» تحضن بيوتاً ارتفعت من رحم الأرض، مما حدا بي إلى استذكار ما قاله الشاعر اللبناني إيليا أبو ماضي:
ليســـتْ قبــاباً ما رأيت وإنّمـــاعزمٌ تَمَــرَّدَ فاستطال قبابا
هكذا وبلحظات حَضَرَ الماضي بأماكنه الحقيقية ومكانته وإنجازاته التاريخية، فالدرعيّة هي حصن الدروع، والدروع قبيلة استوطنت وادي «حنيفة». تصدَّرَتْ «الدرعية» الطريق التجاري من شرق الجزيرة الى غربها، وتحكّمَتْ بطريق الحجّ الى مكّة المكرّمة. وفيها ظهرت دعوة الإصلاح بعد أن احتضن حاكمها الأول محمد بن سعود مؤسّس الدولة السعودية الأولى 1788-1818م دعوة الإمام المجدّد الشيخ محمد عبد الوهاب.
هكذا، بدأ تاريخ جديد ومتطوِّر للدرعية وأصبحت أقوى مدينة في بلاد نجد وأهم حاضرة، فقوِيَ مركزها العسكري والسياسي والديني وتدفّقت عليها الثروة وتقاطر التجار على أسواقها، وغدت منارة للعلم والتعليم وتوافد عليها الطلاب من جميع الأقطار.
خَضَعَتْ لنفوذ «الدرعية» معظم أجزاء جزيرة العرب: العارض، الإحساء، القصيم، جبل شمر، مكّة، المدينة، الحجاز، جنوب الطائف، أراضي تهامة اليمن. واستمرّت شهرتها خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر ميلادي، الى أن ألْحَقَتْ بها الدولة العثمانية الدمار وبمحيطها عام 1818م.
في العام 2010 تمّ تسجيل «حيّ الطريف» بالدرعية على لائحة التراث العالمي لدى منظمة الأونيسكو بصفته تراثاً عمرانياً عالمياً.
لن أنسَى تلك الزيارة التي تمّت بدعوة كريمة من الهيئة العامة للسياحة والآثار، فلقد كنت هناك مع العديد من الزائرين غير العرب وقد خيّم عليهم جميعاً السكون و»السكوت» فيما كنّا أنا وصديقي الأستاذ عبدالله الناصر طوال تلك الزيارة في حضن سلطان التأمّل و»الإصغاء» لما ينطق به هذا الموروث وما تقوله هذه الحاضرة المتفرّدة كجغرافيا والمتميّزة كتاريخ.
-
+
بيروت