من بين أكثر الزوايا شعبية في صحف الأحد وملاحقها الضخمة ببريطانيا نصف صفحة تتحدث عن موائد الطعام وملذات الأكل! وفكرة هذه الزاوية جميلة وبسيطة ومشوقة أيضاً، ففي كل أسبوع يكتب محرر أو صحافي بما فيهم الكتاب الكبار ورئيس التحرير نفسه الزاوية بحماس تشم منه رائحة الطعام في مقاله. فقبل الكتابة يذهب الصحافي إلى مطعم ما يختاره ويتناول في وجبة عشاء عادة أهم الأصناف الموجودة أو يتذوقها، ويتحدث مع مدير المطعم والجرسونات ولا ينسى الحديث الأهم مع الطهاة، بل ويدخل المطبخ ويرى كل شيء بنفسه، ثم يخرج الصحافي بعد أن امتلأ بطنه بمالذ وطاب ويدفع حسابه مثله مثل أي زبون - وليس كما يفعل بعض الصحافيين عندنا الذين يعيشون على فتات الموائد - ثم يكتب عن المطعم وطبخاته وطهاته وديكوره ونوعية الخدمة ومستوى الأطباق، ويقول رأيه بصراحة شديدة وهي قد تتطلب أحياناً ذم الطاهي على بعض الأطباق وامتداحه في أخرى، وتسجيل نقاط ضعف على الجو العام مثلاً في المطعم وانتقاد أسعاره المبالغ بها، أو طريقة الحجوزات به أو غير ذلك. المهم أن الصحافي - والعجيب أنني وجدت أن معظم الذين يتناولون هذه الزوايا هم كتاب من كل المشارب - المهم أنه في النهاية يقوم بتقييم المطعم وخدماته من جميع النواحي ويعطي في النهاية عدد النجوم التي يستحقها كما وجدها، ولكن بدون تحيز وبدون هوى أيضاً. فهذه الزاوية الصحافية هي أصلاً خدمة للقراء تدلهم فيها الجريدة بخبرة وثقافة وتذوق صحافيها على أفضل الطعام وأرقاها وأحسنها جواً وسعراً وطهياً طبعاً، كما أنها أيضاً مادة صحافية راقية يكتب فيها الصحافي نصاً يجمع فيه الثقافة والأدب والحضارة وبعض التاريخ ويمزجه مع الأطباق، وفي النهاية يحصل القارئ على مادة ثقافية جميلة تشعرك وكأن كل كتب الطبخ المنتشرة اليوم في مكتباتنا )فالصو( وكأنها مجرد صحون فوقها مرق وأرز وبلا طعم، وطبعاً لا تستحق القراءة ولا الاستفادة! أما الأغرب من هذا كله، فهو أن كل تلك المقالات الجميلة التي تزيد شهيتك الثقافية والتاريخية في عقلك، وتزيد شهية الأكل في معدتك، يكتبها صحافيون وكتاب صغار وكبار، يتنافسون على كتابتها ويتنافسون على الكتابة الجميلة عن الطعام. وكالعادة في المقارنة عندنا فهي مفجعة على أكثر من صعيد، فمرة لأن جيوش كتابنا العظام الذين لا يكتبون إلا في السياسة ويظنون أنفسهم عظاماً بها ولا يستطيعون أن ينزل مستواهم إلى الكتابة عن الموائ. ومرة نتعلم الدرس البليغ في الكتابة وهو أن عظمة الكتابة ليست عما تكتب بل في كيف تكتب!
-
+
Albassamk1@hotmail.com
- المنامة