في التجربة المدنية تم الطلاق النهائي بين الجماعة والقانون، ليس من إنسان معترف به إلا فردا، ثمة قطيعة تامة بين الجماعة والفكر المدني، الدولة المدنية التي يعيشها الآخرون لم تقم لتحمي الجماعات من شذوذ الأفراد بل لتحمي شذوذ الفرد من سواء الجماعة، وتاريخ المجتمع الانساني لم يحقق هذه القفزة في العصر الحديث إلا لأنه أدرك الفردية والفردانية وكل مفاهيم الفرد، المدنية هي الإيمان الكامل بحرية الإنسان فرداً واحداً، لا لأن العائلة ليست قائمة بل لأن الطفل والأب عند القانون سواسية، والدولة تعترف لكل منهما بوصفه فرداً منفصلاً عن الآخر، الدول المدنية لا تميع عشرة أفراد باسم واحد، ولا تحكم أنثى بذكر، ولا خادما بكفيل ورب عمل.
لنحقق دولة مدنية علينا أن نفهم أن المحكمة والمدرسة والبنك والمطار والمشفى لا يعرفون مواطناً إلا بنفسه، وجهه وصوته وصورته، لا يقبلون بأعمال الحراسة التي تقيم أحداً على أحد، المدنية لا تضع حداً للعقوق لكنها تعرف معنى البر، لا تحيل البنات عبيداً لآبائهم باسم الطاعة، لا ترد المرأة أم الأبناء تحت ولاية أخيها لأنها مطلقة، المدنية لا تعترف بالعصمة وشهوة الذكر ضعف الأنثى، لنصل للمدنية علينا أن نعرف كيف نسن قوانينها، ولنسن القانون علينا أن نؤمن بمفهوم أساسي لا نتجاوزه بأي حال ولا تحت أي ظرف، الإنسان حر لا يملكه أحد، لا أحد يمكن أن يمسك على أحد باسم المصلحة والدراية وحسن الخلق، لا أحد يجوز له التعدي بالمناصحة وترهيب الأنفس والقلوب، لأن فردا هناك ليس وصياً على فرد ولا جماعة ولا هو أدرى وأعلم وأعرف ولا هو إلى الله أقرب، في المدنية لا أحد له في أي حال أن يرسم الدولة بطريقه الخاص إلى الله، لأن الدولة لا تتعدى على الله وتعترف بطريق واحد إليه دون سواه، الدولة المدنية تؤمن بأن الله أعلى، وتعترف أنه يتعالى عن معرفتها ويسمو عن كل محاولاتها الفاشلة في إقامة دولته.
التجربة الانسانية المدنية لم تنجح وهي تظن في نفسها شيخاً للناس، إنها تقدمت في اللحظة التي أدركت فيها أنها إنسان ليس إلا، أدركت المدنية أن إنسانها أقل شأناً من أن يكون بطلاً أو داعية، فالانسان المدني قد أحال ذلك صورة تاريخية وقصراً للسياح، أعاد الكاهن إلى معبده وأفضى طريقه إلى الحياة من كل مدعي العلم والمعرفة والإيمان والأخلاق، الإنسان المدني رفض أن يسير على خطى غيره، لم يقبل أن يخوض غيره تجربته الخاصة، لم يترك المرأة في المنزل لأن الرجل يجد العمل خارجه شاقاً، الأنثى المدنية لم تقبل تجربة الرجال في المناجم والسفن والمصانع لتعتزلها لأنها لم تسخر لها، لقد خاضت تجربتها الخاصة بها وأدركت أن النساء ليس جنساً من صنف واحد ما لا تستطيعه امرأة واحدة لا تستطعنه البقية، المرأة المدنية عرفت أنها ليس أنثى واحدة بل لا عدد لها ولا أصناف..
تجربة الإنسان المدني هي أولاً وأخيراً تجربة فردية، لم يعد مقبولاً ولا ممكناً الحكم على الفرد من خلال آخر، لقد وسعت خيارات الإنسان إلى ما لا يمكن أن يحدده ضمن جماعة واحدة يتم التعامل معها كفرد واحد وهم في عددهم ألف أو مليون أو 24 مليون مواطن، التجربة المدنية أدركت أن الله قادر على أن يخلق هذه الملايين مختلفة عن بعضها لا ينطبق على فرد فيها ما ينطبق على غيره، تركت الأفراد كلاً منهم إلى نفسه لتجربته لحياته يحدد هو ما يريده لها وما لا يريد، لم تترك لأب أن يحرم ابنه فنه لأنه يؤمن بحرمته، تركت للولد حقه مع الله ومسؤوليته الشخصية مع خالقه، لم تسمح للأب أن ينتصب سلطة على ابنه، الدولة المدنية لا تقيم عشرة رجال على مليون مواطن يأتمرون عليهم، يقيمون رجولتهم وفحولتهم، الدولة المدنية حبست كل المحتسبين عن الناس وأعادت لكل فرد حقه في شكله وملبسه وعبادته..
المدنية حق الفرد في أن يعيش تجربته الانسانية كاملة كما يريدها، لا حدود لها إلا أن تمس حدود حرية الآخر، المدنية لم تسق المجتمع لحكم الأخلاق فيعيث كل مريض ومهوس ومختل بالآخرين فساداً باسم منامته وعقده الجنسية ومشاكل طفولته، كسرت عصا تفوق النسب ورجال الدين، كفت يد الأب والمعلم عن جيلها القادم، المدنية أفضت ما بين الناس والله، تركت لهم حقهم في تجاربهم الايمانية مع ربهم، لم تسمح لأحد أن يحرم أحدا حقه مع ربه، لم تترك لأحد أن يتكلم باسم الله ويسوس الناس، في المدنية الله تعالى وحده رب الجميع وما هنالك أربابٌ للبيت ولا للعمل ولا للمسجد ولا للوطن..
-
+
Lamia.swm@gmail.com
- الرياض