من الظواهر الاجتماعية المثيرة أن السعوديين بقدر اندماجهم الشديد في التكنولوجيا إلا أنه لا تزال لديهم محافظتهم الاجتماعية ويستوي في هذا المحافظ وغيره. علاوة على ذلك، فإن هذه الظاهرة تخرق المجتمع طولاً وعرضاً، هذه التناقضات بالطبع سوف تولد نتائج يمكن معرفتها. بسبب المحافظة الاجتماعية كل الأسئلة المحرمة والنقاشات غير المرغوب فيها وجدت لها منفذا إلى العالم رغما عن كل الرقابات. في البداية كانت نفثات وانتقادات لظواهر اجتماعية أو دينية اجتماعية لكن خلف أسماء مستعارة خوف المحاسبة أو عدم نضوج الخيار؛ كانت النقاشات مفتوحة الأبواب مشرعة لكل راغب ومن يحمل شيئاً يمكن قوله. تحدد الصراع في أربع أطراف رئيسية: جهاديين, وليبرالين, وتنويريين, وسلفيين. الحدة في الطرح، واليقينية في المبادئ كانت ظاهرة في كل الأطياف.

بعد تقلبات وتحولات مجتمعية، وسياسية, وثقافية فيما يبدو أن النزاع يتجه أن يكون بين طرفين متميزين..: السلفيين والتنويرين ربما لأنهما الأكثر اعتدالا وقربا للمجتمع وثقافته وأيضاً ربما بسبب وجود الأفق المشترك مع الثقافة الاجتماعية أكثر.

إن ظاهرة التنوير السعودي هو جزء من سلسلة التأثر التي حصلت وتحصل بين الأقطار العربية والسعودية. في السابق حصل هذا التأثر ليحدث تغيرا وتطويرا كبيرا على الخطاب السلفي المحلي ، لكن هذه المرة كانت الاستفادة التنويرية من الدول العربية من الكتاب والتيارات التي غض الطرف عنها بل وواجهت في المرحلة السابقة. ليس هذا فحسب بل فتح أفقه على الفكر العربي بأكمله وبكل تيارته وتجاربه وإخفاقاته ونجاحاته. أصبح التنوير في قلب الصراعات الفكرية العربية والإسلامية بكل أطيافها وفوق كل ذلك أصبح التنوير جزءاً من الحراك الفكري والثقافي العربي والإسلامي بشكل عام الذي يجري فيه حراك كبير ونقد هائل للتجارب والإخفاقات المتتالية. كل هذا النقاش الذي يدور في الساحة العربية والإسلامية أضيف على الساحة المحلية الذي كان أكثر من أن يستوعب كل ذلك إلا ربما بعد تجرعات ومازال هناك سوء فهم وعلاقة مرتبكة لهذا التيار وأفكاره بخصومه وبالناس.

بالمقابل، كان من معالم التيار السلفي وثوقيته الهائلة بمبادئه إلا أنه فوجئ بخط جديد في بيئته التي ورثها منذ زمن وأتى كي ينافسه عليها فهو التحدي الأكبر الذي يواجهه. لم يواجه التيار السلفي التيار التنويري بآداة واحدة.. إنما عامل كلا من الشخصيات التنويرية الظاهرة بحسب ما يجيد ويتقن. التيار الحركي الفكري المتأثر بأدبيات الحركة الإسلامية رد بطريقة ثقافية وتحذيرية مع الاستعانة بكتاب من خارج النسق السعودي للمنازلة. أما التيار المحتسب فأخذه بسلاطة لسان ونازله بهجوم واتهامات. أما التيار العلمي فكان من نصيبه الردود الفقهية وتلميع الثقافة الشرعية والمذهب السلفي.

إن الصراع بين التيارين السلفي والتنويري مستمر ضاغط لأنهما يقفان على أرضية واحدة لا يمكن المزايدة عليها؛ هي تلك المرجعية الشرعية وأيضاً جزء لابأس به من التيار التنويري يحمل معرفة شرعية جيدة بل هناك أساتذة جامعات شرعية وأكاديميون فمن الممكن القول بأن أساس المشكلة هو حول من يمتلك قوة ومتانة التأويل للإسلام والدين ويستطيع أيضاً توصيله للمجتمع والتأثير فيه ووضع قدم راسخة وحينها يحاول كل تيار حفر أساليبه التأويلية على طريقته الخاصة المناسبة له. ملاحظة معالم الصراع التأويلي ممكن تبينها عندما تثار قضية مجتمعية ليستنجد كل فريق بأدواته للاستدلال والبرهنة على صحة مقولاته التي في النهاية تأويل للدين وفهم له. باختصار هناك اختلاف في الرؤية للعالم عند الطرفين التي من خلاله يفسر الإسلام ويبني مواقفه تجاه الأحداث. والاتفاق في بعض المواقف لا يعني الاتفاق في المنطلقات.

من الملاحظات البارزة في كل هذا الصراع أنه كثيراً ما يبرز من خلال مواقف اجتماعية، وسياسية أكثر من أنه أطروحات فكرية ومعرفية، الأعجب الاستنفار الهائل من الطرفين في هذه القضايا حين يُستنفر عدد كبير من أطراف التيارين كي يشارك في حلبة الصراع بالأخص مع وجود الشبكات الاجتماعية. صحيح أن التيار المحافظ يعتمد على التراث الفقهي والأصولي وهذا مايجعله يظهر كما لوكان هو الأكثر تماسكاً مع ما يواجهه من صعوبة في تكييفه مع عالم مختلف، وقد يواجه أسئلة محرجة في أحيان مختلفة، لكن هذا لم يشفع له كثيراً في جو الصراع الذي استمر مبنياً على مواقف فكرية.. والسؤال هو هل سنشهد صراعاً معرفياً وعلمياً أكثر من كونه تأويليا, أم أنه سوف تستمر لعبة الصراع التأويلي زمناً أطول خاصة مع خلو الساحة من طرح فكري معمق.

-